بقلم – السيد يس:
أتحدث عن الحق المطلق للنوبيين فى العودة إلى أراضيهم التى هُجّروا منها بسبب بناء القناطر، وعلى وجه الخصوص بحكم بناء السد العالى، ليس من باب الحق التاريخى فقط، أو من قبيل التطبيق الدقيق لنص الدستور الذى قرر ضرورة وضع الدولة خطة تنمية لهم، وإنما لحقهم المطلق فى العودة.
وفى حديثى عن الحق المطلق للنوبيين فى العودة إلى أراضيهم التى هجروا منها، لا أعتمد قط على المنطق السياسى السليم الذى من أهم مبادئه تطبيق مبدأ العدالة، واحترام حق المواطنين النوبيين فى العودة، ولكن أعتمد على خبرتى المباشرة فى الموضوع.
وهذه الخبرة تتمثل فى أن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية الذى كنت أعمل باحثا علميا به قرر، تقديرا للأهمية الكبرى لتهجير النوبيين من قراهم الأصلية التى ستغرق بعد بناء السد العالى، أن يشكل فريقا للبحث العلمى لإجراء مسح أنثروبولوجى واجتماعى ومعمارى لكافة القرى النوبية التى ستغرق بعد بناء السد العالى.
وقد كلفنى أستاذى الراحل الدكتور أحمد محمد خليفة، مدير المركز فى هذا الوقت، أن أكون عضوا فى فريق العمل الميدانى الذى سيقوم بمهمة المسح الشامل للقرى النوبية.
وتشكل الفريق من عدد من الخبراء والباحثين كان أبرزهم جميعا المعمارى العالمى المهندس حسن فتحى.
وذهب الفريق إلى أسوان استعدادًا للرحلة، واستخدمنا فيها باخرة نيلية.
وبدأنا الرحلة التى امتدت من أسوان إلى أدندان. وزرنا القرى النوبية قرية قرية، واكتشفنا الملامح الأساسية للبيت النوبى ولقت نظرنا اهتمام النوبيين بتزيين أبواب البيوت بشكل رائع ينجزه عادة البناءون النوبيون، ودرسنا تكوين البيت النوبى الذى كان تقليدا يتشكل من «حوش» كبير يتضمن حجرات متعددة وهو معد لإضافة حجرات أخرى إذا ما تزوج أحد أفراد الأسرة.
وعدنا من الرحلة وقدمنا تقريرا علميا عنها إلى إدارة المركز، وكان أبرز توصيات التقرير اقتراح للمهندس «حسن فتحى» ومؤداه «ما دام أن التهجير سيقع لا محالة» فقد اقترح أن يبنى البناءون النوبيون «النوبة الجديدة» فى المنطقة التى خصصت لها فى «كوم إمبو» على أن يقام مركز تدريب فى أسوان لصقل مهارات البنائين النوبيين تحت إشراف «حسن فتحى».
غير أن صانع القرار لم يستجب لهذه التوصية المهمة والتى تتضمن احترام النسيج الاجتماعى للقرية النوبية. واكتشفنا أن هناك فى النوبة ثلاث مناطق متميزة الأولى منطقة «الكنوز» والثانية منطقة «العرب» والثالثة منطقة «الـﭭادجا» وكل منطقة لها تاريخ سلالى متميز.
وهكذا نتيجة الرغبة فى الإسراع وفى بناء السد العالى تم تهجير النوبيين إلى قراهم الجديدة التى قامت ببنائها شركات مقاولات تقليدية وأهدرت عشرات الألوف من أطنان الأسمنت فى هذا البناء المتعجل.
وقد قرر المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية استكمال البحث، فشكل فريقا ميدانيا آخر قمت برئاسته لبحث أحوال النوبيين فى قراهم الجديدة. واكتشفنا أن توزيع البيوت تم بناء على عدد أفراد الأسرة، ولم يلتفت المسئولون إلى طبيعة النسيج الاجتماعى فى القرية النوبية القديمة وهكذا توزعت العائلات الكبيرة بين أطراف القرى الجديدة. ناهيك أن المنازل الجديدة لم تكن فيها مزايا البيت النوبى التقليدى.
فى ضوء ذلك كله وضعنا فى الاعتبار أن النوبيين قد هُجّروا أكثر من مرة ولأنهم ضحوا -بحكم انتمائهم الوطنى الأصيل لبيوتهم وقراهم وهى التى عاشوا طوال حياتهم فيها- فهم أحق الناس بتلك الأراضى التى خصصتها الحكومة فى مشروع المليون فدان وخصوصا «خور فندى» الذى طرح للشركات الاستثمارية وهذا ظلم فادح.
ويقينى أن الارتباك الحكومى فى مجال الاستجابة لمطالب النوبيين المشروعة مسألة محيرة فى الواقع، لأن الحق واضح وضوح الشمس، كما أن الباطل واضح أيضا فلم التردد فى إعطاء النوبيين حقوقهم التاريخية؟
وتبقى الإشارة إلى أننى استفدت مؤخرا من مقال بالغ الأهمية كتبه الباحث «عادل الحمينى» بالمركز المصرى لدراسات السياسة العامة، أرسله لى على بريدى الإلكترونى، وأشكره لأنه استطاع أن يركز على أبرز الوقائع التاريخية فى تهجير النوبيين من مواطنهم الأصيلة إلى الوادى.