بقلم – السيد يس:
اشتهر المفكر الأمريكى اليابانى الأصل «فرانسيس فوكوياما» بكتابه الشهير «نهاية التاريخ» والذى أصدره بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وكأن التاريخ العالمى وصل إلى منتهاه بالهزيمة الشاملة للماركسية فى تطبيقها السوفيتى والانتصار المطلق للرأسمالية.
وقد أحس «فوكوياما» بعد سنوات من إصدار كتابه أنه غالى كثيرا فى أحكامه التاريخية، ولذلك راجع بعض تعميماته الجارفة. وهو فى الواقع اتجاه محمود فى مجال النقد الذاتى للمفكرين الذين لديهم استعداد للعدول عن آرائهم لو تبين خطؤها أو مغالاتها فى وصف الواقع التاريخى.
غير أن «فوكوياما» فى الواقع مفكر سياسى شامل أصدر كتبا متعددة فى موضوعات كثيرة ليست أقل قيمة من كتابه «نهاية التاريخ»، وفى مقدمة هذه الكتب كتاب لم تتح له إطلاقا شهرة كتابه الأول وعنوانه «الثقة» Trust. وهو يقدم فيه نظرية متكاملة عن العلاقة بين الثقة والتنمية.
ونظرية «فوكوياما» فى هذا المجال تستحق التأمل العميق، لأنه يصنف المجتمعات المعاصرة فى ضوء ارتفاع أو انخفاض معدلات الثقة فى المجتمع. وهو يعنى بذلك الثقة بين الدولة وأجهزتها المختلفة وجمهور المواطنين من ناحية، والثقة الشائعة بين المواطنين أنفسهم وبعضهم بعضا.
ونريد اليوم أن نقف قليلا عند موضوع الثقة بين الدولة وأجهزتها المختلفة والمواطنين بوجه عام.
ونعتقد أن «فوكوياما» قد وفق توفيقا كبيرا فى لفت النظر لأهمية هذا الموضوع؛ وذلك لأن المواطنين لو انتابتهم الشكوك فى صحة التصريحات الرسمية التى يصدرها المسئولون فى الدولة فذلك ستكون له آثار سلبية بالغة العمق على مسار التنمية فى البلاد، لأن الشكوك فى صحة وثبات تصريحات المسئولين من شأنها أن تحدث اضطرابا شديدا فى السوق، بل قد تؤدى إلى إقلاع بعض المنتجين عن الإنتاج!
وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد فسنلقي النظر إلى التصريحات الحكومية فى مجالين أساسيين الأول هو أسعار الدواء، والثانى هو شراء الحكومة لبعض المحاصيل الزراعية.
ولسنا فى حاجة إلى الإشارة إلى الأهمية القصوى لثبات أسعار الدواء وأهم من ذلك توفره فى الصيدليات، غير أننا فى الفترة الأخيرة فوجئنا بالنقص الشديد فى فئات الأدوية التى يحتاجها المرضى بشدة، وأخطر من ذلك تصاعد التصريحات عن رفع أسعار الأدوية فى حين أن الصيادلة يعترضون بشدة على ذلك.
ومن هنا هددت نقابة الصيادلة بإصدار قرار بالإغلاق الجزئى للصيدليات لمدة ست ساعات يوميا احتجاجا على القرارات الحكومية غير المدروسة.
ومن هنا يمكن القول إن تذبذب تصريحات المسئولين فى مجال قطاع الدواء له آثار سلبية للغاية على عملية الإنتاج فى المجتمع، بل ويؤدى بالضرورة إلى خفض الروح المعنوية للمواطنين. وذلك لأنه ليس هناك لدى أى مواطن شيء أغلى من صحته التى تسمح له بالإنتاج وتجعله يتحرك بحيوية وفاعلية أما أن تنتابه المخاوف من أنه قد يمرض ولا يجد العلاج اللازم أولا يستطيع شراءه لارتفاع سعره فذلك من شأنه أن يخفض من روحه المعنوية مما ينعكس سلبا على عملية التنمية فى المجتمع.
وفى المثال الثانى الخاص بشراء الدولة للمحاصيل الزراعية من الزراع هناك أحيانا تصريحات متضاربة فيما يتعلق بشراء محصول القمح أو محصول قصب السكر، أو محصول الأرز.
ونتيجة لغياب السياسات الحكومية بعيدة المدى فى هذا المجال مما يسمح باستقرار خريطة زراعة المحاصيل الزراعية فإن المزارعين أحيانا يتوقفون تماما عن زراعة بعض المحاصيل إن أصرت الحكومة على شرائها بثمن يراه المزارع بخسا وخصوصا فى ظل الارتفاع المستمر فى تكاليف الزراعة نظرا للارتفاع غير المبرر فى ثمن الأسمدة.
ومن هنا يبدو صدق نظرية «فوكوياما» ومؤداها أنه إذا ارتفعت معدلات الثقة بين الدولة والمواطنين فذلك من شأنه أن يرفع معدلات التنمية والعكس صحيح.
أما الشق الثانى من نظرية «فوكوياما» وهو شيوع الثقة بين المواطنين وبعضهم بعضا أو تدنيها أو انعدامها فى بعض الأحيان فذلك موضوع بالغ الأهمية يحتاج إلى أن نعالجه بإسهاب فى مقال قادم لصلته الوثيقة بموضوع الشخصية المصرية فى مجال سلبياتها وإيجابياتها على السواء.