بقلم – محمد بدرالدين:
قلنا: نحن على مشارف مئوية جمال عبدالناصر، فبعد عام بالتمام، فى الخامس عشر من يناير ٢٠١٨، تكون قد مرت مائة سنة على ميلاد القائد الخالد.
وقلنا: إن علينا أن نستعد من الآن، وعبر عام كامل، لاحتفالية عملاقة تليق بأنبل وأعدل زعماء أمتنا على مر التاريخ.. احتفالية معرفة وعلم ودرس، وتأمل متعمق من أجل الحاضر ومواجهة تحدياته ومتطلباته، وبعين مفتوحة على اتساعها، متطلعة إلى المستقبل وآفاقه وضروراته.
وعلى ألا تكون فحسب احتفالية جمال قلب، يمتن لعطاء وأداء بطل فريد، وإنما أيضًا احتفالية جلال عقل، يستمسك بنهج ومشروع حضارى ثورى، تجتاز به مصر وأمتها العربية الطريق إلى المستقبل الحر العادل المنشود.
■ شخصيات عابرة للتفاصيل:
توجد فى حياتنا.. وفى تاريخنا شخصيات عابرة للتفاصيل، والشعوب وحدها على مر زمانها، هى التى تقرر إذا ما كانت شخصية ما، جديرة بأن تكون من هذا الطراز أم لا.
ومن اللافت مثلًا أن شخصية كالقائد والحاكم من حقبة المماليك «الظاهر بيبرس»، لم يأبه الشعب المصرى، بتقديره وحسه الخاص، بأى تفاصيل أو حتى مآخذ تقال وتتردد حول تلك الشخصية، حول اسم وأيام بيبرس، وعلى نحو يظل بحاجة إلى دراسة علمية تحلل وتفسر، ما جرى من تحويل الشخصية إلى بطل شعبى نادر المثال، فى سيرة شعبية كاملة الأوصاف والبنية والمقومات، تظل تروى على مدى الأجيال.
لقد أصبح «بيبرس» لدى هذا الشعب، رمزًا وخلاصة من خلاصات البطل المقاتل القادر، الذى ينازل أعداء الأمة ببسالة، والذى ينجز ويبنى، بعد الدفاع عن البلاد ودحر أعدائها، ويقيم دولة ناهضة شامخة، وكل ما عدا ذلك من تفاصيل، وكل ما يمكن أن يرصد من تحفظات أو تجاوزات، لا يقيم لها الوجدان والعقل الجمعى للشعب وزنًا، ولا يكترث بأى مؤاخذة أو رصد خارج ما يعتقد.
وعلى الرغم من كل ما يقال ويرصد أيضًا من تفاصيل وانتقادات، تخص ممارسات إدارة الدولة وحكمها، فى الحقبة الأيوبية خلال عهد مؤسسها صلاح الدين الأيوبى، فإن الرجل فى وجدان واعتبار الشعب، يظل بطلًا ورمزًا عبر التاريخ لقضية تحرير الأمة، ولقضية توحيد الأمة، ولا يلتفت الشعب لشىء خارج هاتين القضيتين، وعندنا أن بعض من ينتقدون الفيلم السينمائى المصرى الأشهر «الناصر صلاح الدين»، من هذه الزاوية، أى أنه من وجهة نظرهم يقدم صلاح الدين بأكثر الصور مثالية، ولا يلتفت إلى أى تفاصيل وملاحظات سلبية من أى نوع، هؤلاء لا يدركون أن هذا الفيلم نجح، وعاش وسيبقى، لأنه عند هذا الوجدان والعقل الشعبى، هو الرواية والرؤية الأصدق، إن الفيلم هنا فى اعتقادنا قد أصبح المعادل «للسيرة الشعبية للظاهر بيبرس».. لكنه هذه المرة عبر الفن السابع، السينما فن العصر والعالم خلال القرن العشرين وإلى الآن، وهو الفن الذى جاء من بعيد إلى الشعب المصرى، لكنه مصره، قدمه مصريًا وعربيًا ومنتميًا إلى ثقافته الوطنية والشعبية، وفى تقديرنا أن الشعب العربى فى تاريخه الحديث قد شغف بفن السينما وأحبه أكثر من أى فن آخر.
ويكاد لا يوجد زعيم وعظيم من زعماء وعظماء القرن العشرين، مثل جمال عبدالناصر، وجهت ضده من الخارج والداخل مرورًا بالرجعية العربية، سهامًا مسمومة وحملات مستمرة من أجل التشويه، وعلى الأقل التشويش، وما أن تهدأ حملة حتى تبدأ أخرى.
لقد هوجم جمال عبدالناصر فى حياته، بل أكثر وأشرس خلال عقود طويلة بعد رحيله فى ٢٨ سبتمبر سنة ١٩٧٠، وإلى الآن على كل الجبهات وفى كل القضايا، ومن مختلف المنطلقات والزوايا، ومن المخابرات المركزية الأمريكية والقوى الاستعمارية، إلى المتعاونين معها أصحاب المصالح فى ركابها أو ذيلها، إقليميًا وعربيًا ومصريًا، وصولًا إلى جماعات أو مجموعات سياسية وحزبية اصطدمت مع مشروعه وثورته، من أقصى اليمين الرجعى باسم الليبرالية أو باسم الإسلام، إلى أقصى اليسار باسم: «الثورة الشعبية الاشتراكية الديمقراطية» المنتظرة، التى فى زعمهم قطع عليها الطريق وأجهضها قيام جمال عبدالناصر بثورته، والتى هى فى خطابهم أو رطانهم لا تعدو سوى انقلاب، والحكم العسكرى الممتد الذى أسسه، ويلحقون به وبنظامه، المنقلبين بدءًا من السادات فمبارك، حيث هى فى زعمهم المنحط: جمهورية واحدة عسكرية أو فاشية استمرت لأكثر من ستين سنة، وكل حكامها فى سلة واحدة!.. فيا للهول.. أو يا للهزل.. أو بالأحرى كليهما معًا!
لكن الشعب المصرى ومعه الشعب العربى ككل، لم يلتفت قط ولو للحظة واحدة لكل ذلك الطنين، أو اللغو وكل ذاك الهراء، وحينما تفجر غضبه الساطع فى ثورة يناير ٢٠١١ الخالدة رغم كيد أعدائها وسعارهم ضدها وحملاتهم المتزايدة! فإن أبناء هذا الشعب الثائرين، فاجأوا جميع خصوم ناصر وثورته، بأنه الوحيد الذى رفعوا صوره ورددوا الأناشيد التى كانت تقال فى عصره، من قلوب وعقول وضمائر الفنانين الأفذاذ (كجاهين والطويل وعبدالحليم)، تعبيرًا صادقًا مرهفًا عن قلب الشعب ونبضه، ومناصرته لناصر، التى لم يؤثر عليها قط شىء، ولا حتى صدمة جولة من جولات صراع ممتد، ولو كانت بحجم الصدمة الهائلة فى ٥ يونيو عام ١٩٦٧، فى مواجهة عدوان آخر بعد عقد من العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦.. إنه هذه المرة (العدوان الثنائى.. الأمريكى أولًا والإسرائيلى ثانيًا)، وذلك وفق كل الوقائع وأيضًا كل الوثائق التى اتضحت أو افتضحت، ولم يكن بعضها معروفًا وقت العدوان وحتى فى حياة عبدالناصر، نعم هو «العدوان الثنائى»، وهذه هى التسمية الصحيحة.
كما لم تؤثر قط على مشاعر الشعب ومناصرته واعتزازه بزعيمه ناصر، كل الحملات المستعرة المستمرة ضده من كل لون وصوب، وهو ما لم يعبر عنه شعبنا خلال ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فحسب، بل وعبر كل المليونيات الشعبية الهادرة التى أعقبتها، وصولًا إلى ثورة الشعب فى ٣٠ يونيو ٢٠١١ لإنقاذ ثورته فى ٢٥ يناير من براثن جماعة اليمين باسم الإسلام، «الإخوان» الذين سلمت لهم البلاد وحكمها بإيعاز وتوجيه السيد الأمريكى.
إن جمال عبدالناصر يظل لدى الشعب المصرى، وسيظل لدى أجياله المتعاقبة، رمزًا وضاء وتعبيرًا خالصًا عن أفضل وأنبل ما يتطلع إليه هذا الشعب فى مصر، بل والشعب فى مجمل الأمة العربية، ولم يكن شعار الشعب الرئيسى فى ثورة يناير «عيش. حرية. عدالة اجتماعية. كرامة إنسانية» إلا تعبيرًا عن مجمل أهداف نضال جمال عبدالناصر الذى عاش من أجلها، واستشهد فى سبيلها، وستظل هذه الأهداف مهام الشعب وثواره، وسيظل عبدالناصر لدى هذا الشعب أعظم ثواره، وسيد شهدائه، وأخلد قادته، وأنبل أبطاله.
■ آخر ديسمبر ٢٠١٦:
«سالم سلام».. رحيله صدمة كبيرة، موجعة.. صديق نبيل من أصدقاء العمر.. ومناضل شامخ، من أروع وأشجع وأخلص وأصدق مناضلى هذا الوطن، ومن أجمل أصحاب القلب الاشتراكي، المحب للناس، ولكل ما فيه الخير للإنسانية.
سالم سلام: ابن مدينة المنصورة.. وابن قصتنا وعصرنا وآمالنا وآلامنا… سلامًا يا حبيبنا.
■ أول يناير ٢٠١٧:
سلامًا.. أحمد الحضرى.. أحد أبرز وأقدر رواد الثقافة السينمائية فى بلادنا.. كجزء لا يتجزأ من ثقافتنا الوطنية، منذ الخمسينيات الماضية.. ومؤرخ السينما المصرية الأكبر.
سأفتقدك كثيرًا.. صديقًا غاليًا رائعًا.. وأبًا حانيًا جميلًا.