بقلم – محمود بسيوني:
كنت انتظر من مؤشر الشفافية الدولية إنصافا لمصر يعكس عمل وجهد جهاز عظيم مثل الرقابة الإدارية الذى يخوض حربًا غير مسبوقة ضد الفساد فى الجهاز الإدارى للدولة المصرية، وصلت إلى حد القبض يوميًا على حالتين أو ثلاثة فى حالة تلبس “بالرشوة”، لكنى كنت واهما، فالمؤشر بدلا من أن يضع مصر ضمن الدول الأكثر حربًا على الفساد تراجع بها رغم كل ما يُبذل من مجهود شاق يعكس وجود إراده حقيقية لمكافحة الفساد.
وحينما كشف معدوا التقرير عن أسباب ذلك، جاءت محاكمة المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزى للمحاسبات، ضمن أسباب تراجع ترتيب مصر، رغم صدور حكم قضائى من محكمة جنح مستأنف القاهرة الجديدة، بتأييد حبسه سنة مع الإيقاف وتغريمه 20 ألف جنيه، بتهمة نشر أخبار كاذبة، وهى التصريحات التى أطلقها قبل 25 يناير، وقال فيها رقمًا للفساد مبنى على تقديرات خاطئة وضعت الدولة فى حرج قبل دعوات الإخوان لإثارة الفوضى فى ذلك التوقيت، وهو ما عزز أن هدف تصريحاته سياسى وليس لرغبة حقيقية فى مكافحة الفساد، وبالتالى لا ترقى قصة “جنينة” لتكون قرينة وفق أى معيار على رضا الدولة بالفساد.
ثم جاء تجاهل المنظمة الدولية التى تتخذ من برلين مقرًا لها ، لقضية الفساد الكبرى التى تورطت فيها قطر مع الفيفا ورئيسها السابق جوزيف بلاتر؛ ليؤكد أن التقرير تعامى عن فضيحة فساد دولية كبرى متهم فيها أمير البلاد نفسه، فضلا عن خلو إمارته من وجود برلمان يراقب أو أجهزة ومؤسسات تراقب إنفاق المال العام، فكيف تتقدم على مؤشر الشفافية الدولية؟ .. إلا إذا كان التقرير تتم صياغته وفق هوى سياسى معين ؟!
لا أنوى أن أصدر أحكاما على مؤسسة دولية معروفة، ولكنى أضع بعض التساؤلات من منظور ما تفرضه النزاهة والعدالة، فما أعلمه أن المؤسسات الحقوقية الدولية ليس لها هوى سياسى، ويفترض فيها الاستقلالية والحياد، ولكن عند قراءة تقرير منظمة الشفافية تجد الحديث السياسى يتصدر مقدمته مثل التحذير من صعود الساسة الشعبويين فى إشارة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، محذرًا من أن صعودهم يقوض عملية مكافحة الفساد دون أن تقول لنا ما هو مبررها على ذلك ؟ .. وهل التحذير موجه لمن ينتخبهم بهدف التأثير على نتائج العملية الانتخابية، وهل ذلك صحيحًا على مؤشر نزاهة العملية الانتخابية فى العالم؟! ، ثم حذرت من تنامى الفساد فى عهد ترامب بعد أسبوع واحد من حكمه، وكأن الولايات المتحدة قد تحولت إلى “جمهورية موز” أو أن منظمة الشفافية قررت معاقبة الشعب الأمريكى على اختياره الديمقراطى الحر طالما لم يأت على هوى ناشطى المنظمة؟!.
الإشارات السابقه تعطى انطباعا حول من يصيغ مثل هذه التقارير فى البلدان المختلفة، وانتماءاتهم السياسية، وتأثر ما يكتبونه فى تقاريرهم بهواهم السياسى دون النظر بجدية فى إجراءات تلك الحكومات لمنع الفساد ومكافحته، كما فى حالة مصر، والتى وصلت إلى حد تجاهل وجود استراتيجية حكومية لمكافحة الفساد أعلنت عنها الحكومة المصرية عام 2014، والتى تعد بمثابة خارطة طريق لعمليات المكافحة التى نتابعها فى أداء الأجهزة الرقابية المختلفة.
الدليل الثانى على شكى فى التقرير هو ما أوردته هيئة النزاهة العراقية من تحفظات على تقرير منظمة الشفافية الدولية عام 2013، وكان أولها عدم سعى المنظمة الدولية للتحقق الموضوعي عن واقعية وطبيعة الفساد في العراق، وقالت المنظمة فى بيانها: إن “الشفافية الدولية” تجاهلت بصورة واضحة خطوات العراق المهمة نحو التصدي لمظاهر الفساد، وأشارت المؤسسة العراقية إلى أنها اجتمعت مع مسئولي منظمة الشفافية الدولية بمقرها في برلين، وعرضت مقترحات لجعل تقرير المنظمة السنوي أكثر مصداقية، وفي مقدمتها فتح مقر للمنظمة في العراق وتعميق صلاتها بمنظمات المجتمع المدني والأطراف المعنية بمكافحة الفساد، وعدم الاستناد في صياغة بنود تقريرها إلى أطراف خارج البلاد تفتقر إلى الكثير من الحقائق والمعلومات الدقيقة عن واقع الحياة في العراق، وهو ما لم يحدث من قبل المؤسسة الدولية ، وهو ما دفع المؤسسة العراقية الى التلميح بأن هدف التقرير هو التأثير على المؤسسات الاقتصادية الدولية والمستثمرين، وإضعاف قدرة الدول الموجودة فى مرتبة متأخرة على مؤشرها من استقطابهم، بمعنى أكثر وضوحًا خلق مناخ طارد للاستثمار، أو المساهمة فى الحصار الدولى على الدول والأنظمة غير المرضى عنها من “النشطاء” واليسار الأمريكى والأوروبى، وهو ما يؤكد بطلان ما تذهب إليه مثل هذه التقارير.
التشكيك فى مصداقية تقرير الشفافية الدولية ليس معناه الدفاع عن الفساد أو السكوت على إهدار المال وتفشى الرشوة فى المجتمع، ولكن هدفه قطع الطريق على جلد من يكافح الفساد بسوط مؤشر الشفافية والنزاهة، أو الخضوع لأحكام لوبى مصالح دولى غير راضٍ عن إطاحة الشعب المصرى بحكم جماعة الإخوان الارهابية.
ولعل الكاتب الكبير جهاد الخازن، قد أصاب حينما كتب أمس الجمعة، فى “الحياة” أن منظمات حقوق الإنسان من لندن إلى نيويورك تتكلم عن جهل ، وأزيد عليه أن تقاريرهم “جاهلة ” عن عمد، فلديهم مآرب آخرى غير العدالة وحماية حقوق الإنسان.