بقلم – السيد يس:
حينما قامت ثورات الربيع العربى بداية بتونس الخضراء، والتى لحقتها مصر بعدها بأسابيع قليلة، وسرعان ما لحقت ليبيا بالركب من خلال صراع دموى حاد لم تشهده كل من تونس ومصر، ظننا أن كل ثورة من هذه الثورات إنما هى ثورة سياسية فى المقام الأول.
ونعنى بذلك أن الهدف الأساسى لهذه الثورات جميعًا هى الانقلاب الجماهيرى ضد النظام الاستبدادى القديم، شموليًا كان أو سلطويًا، للقضاء على الاحتكار السياسى واستئصال شأفة الفساد الذى نخر فى كل بنية المجتمع، وإنهاء عهد المظالم الاجتماعية التى عانت منها جماهير المواطنين فى البلاد الثلاث التى شهدت هذه الثورات. وقد تبلورت هذه المظالم عبر عقود متعددة من السنين، نتيجة لفساد الحكم وتحالف سلطات الدول مع مجموعات قليلة من رجال الأعمال المنحرفين، الذين نهبوا الثروة الوطنية ولم يتركوا حتى الفتات للملايين من أفراد الشعب، وفى مقدمتهم عشرات الألوف من الشباب الذين أنهوا مراحل تعليمهم المختلفة، ثم لم يجدوا لا العمل ولا الأمن ولا الاستقرار. بل إنهم على العكس، عانوا من المهانة التى عاملتهم بها أجهزة الدولة المختلفة، بعد أن حرمتهم من حق الحياة وسلبت منهم الكرامة الإنسانية التى يستحقونها بجدارة كمواطنين يسعون إلى العيش الكريم، مثلهم مثل أقرانهم فى البلاد المتقدمة.
والسلطوية –كما هو معروف فى علم السياسة- نظام سياسى يقوم على استحواذ جماعات قليلة من النخب السياسية الحاكمة على السلطة والقوة معًا. وهذا هو الذى يسهّل لها ممارسة القمع السياسى وحصار الأحزاب السياسية المعارضة، والتضييق على حركة مؤسسات المجتمع المدنى، بل وخرق حقوق الإنسان بصورة منهجية، ضمانًا لاستمرار الحكم غالبًا لمدد غير محددة، لأن باب تداول السلطة يتم إغلاقه بإحكام عبر إجراءات غير دستورية.
وإذا تركنا الأبعاد السياسية للسلطوية جانبًا، وهى معروفة جيدًا فى النظرية، وقد خبرتها الجماهير المصرية فى الممارسة، فإن موضوع الثقافة السلطوية السائدة فى المجتمع لم يلق ما يستحقه من اهتمام مع أهميته القصوى.
بل إننا نؤكد أنه ما لم تتغير الثقافة السلطوية السائدة، فإن أمل الانتقال من الديكتاتورية إلى الليبرالية لن يتحقق.
وفى مجال التحليل الثقافى للمجتمع العربى، وهو ما ينطبق بالضرورة على المجتمع المصرى، ركزنا على ثلاث ظواهر أساسية، وهى هيمنة النص الدينى على العقل الجمعى، وتهافت أداء العقل العربى، وسيادة البنية الاجتماعية القمعية فى ظل ما يطلق عليه المجتمع «البطريركى» أو المجتمع الأبوى الذى تمارس فيه السلطة سياسية كانت أو ثقافية بطريقة مطلقة.
تثير الهبة الشعبية العارمة التى وقعت فى تونس، وأدت إلى هروب الرئيس السابق بن على بسرعة إلى خارج البلاد، أسئلة متعددة تتعدى بكثير وقائعها المثيرة التى لم تنته بسقوط النظام القديم، ولكنها مازالت مستمرة حتى هذه اللحظة.
ولعل أول سؤال هو كيف استطاعت جماهير الشعب التونسى أن تفاجئ العالم كله بهذه الهبّة الجماهيرية التى اقتلعت أحد أشد النظم السياسية السلطوية العربية قمعًا من جذوره؟
لقد عاش العالم فى العقود الأخيرة فى ظل شعار التحول الديموقراطى. وذلك لأنه بعد أن انهار الاتحاد السوفيتى، أكثر النظم السياسية شمولية فى التاريخ، استقر فى يقين الوعى الكونى العالمى أن الشمولية، كنظام سياسى، يقوم على القهر المعمم للجماهير، وانفراد حزب واحد بالسلطة وإلغاء الحريات السياسية ومحو المجتمع المدنى، وقمع المبادرات الفردية والاجتماعية، أيا كان من مصدرها، هذه الشمولية قد سقطت إلى الأبد. وإذا كانت بعض قلاع الشمولية المتحجرة مازالت حتى الآن تقف فى مجرى تيار التاريخ، وأبرزها كوريا الشمالية وكوبا، إلا أن مصير هاتين الدولتين بات محسوما بالمعنى التاريخى للكلمة.
فلا مجال فى عالم اليوم لدول شمولية، فى عصر شعاراته هى الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان.
غير أن هناك فى العالم نظم سلطوية قريبة الشبه من الشمولية، وإن كانت تفرق عنها فى أن بعضها على الأقل يعطى المجتمع المدنى بعض فرص الحرية النسبية التى تسمح لبعض الأصوات أن ترتفع، إلا أنها فى التحليل النهائى لا تختلف كثيرًا عن النظم السياسية الشمولية، مادامت ترفض بإصرار عنيد تداول السلطة، وتحاول الالتفاف حول متطلبات التحول الديموقراطى.
والتحول الديموقراطى – بحسب التعريف – معناه ببساطة التحول من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية والليبرالية.
أصبح هذا التحول من شعارات العولمة، وأصبحت الدول السلطوية، ومن بينها الغالبية العظمى من الدول العربية، مطالبة باستحقاقات هذا التحول، بتأثير مطالب الداخل وضغوط الخارج.
أما ضغوط الداخل فتتعلق بالتحولات الاجتماعية التى حدثت فى بنية المجتمع العربى المعاصر، بحكم زيادة معدلات المتعلمين، وخصوصًا خريجى الجامعات، والارتفاع الملحوظ فى وعيهم السياسى، والذى ساعدت العولمة على إنضاجه نظرًا للثورة الاتصالية الكبرى، وأبرز معالمها البث الفضائى وتعدد القنوات، واختراع شبكة الإنترنت، وسرعة تدفق المعلومات والأفكار من بلد إلى آخر، بغير حدود ولا قيود.
وأخطر من ذلك كله أن الأحداث العالمية باتت تشاهَد على قنوات التليفزيون فى الزمن الواقعى لها Real Time، مما ساعد على تخليق وعى كونى عالمى. وهذا الوعى الكونى العالمى دعمته أنساق قيم حضارية جديدة بازغة، سيطرت على أذهان ووجدان أجيال الشباب على وجه الخصوص.
وهذه الأجيال أصبحت تتواصل على نطاق العالم بشكل مباشر، عن طريق الإنترنت، وتتبادل الآراء من خلال المدونات والفيس بوك والتويتر.
وعى كونى يتخلق، وحضارة جديدة تبزغ، ووسائل اتصال مستحدثة تسيطر، وإعلام جديد قادر على أن يتخطى قيود الحكومات، وقمع النظم السلطوية.
هذه هى الملامح الأساسية التى أدت إلى تزايد ضغوط الداخل على الأنظمة السياسية السلطوية.
وإذا أضفنا إلى ذلك بزوغ مؤسسات متعددة للمجتمع المدنى فى عديد من البلاد العربية، سواء منها التى شهدت إحياء لها بعد انقطاع طويل، أو تأسيسًا جديدًا لها، لأدركنا أن مطالبة الداخل العربى بالديموقراطية أصبحت تؤرق قادة النظم السياسية السلطوية.
وهكذا أبدى هؤلاء القادة استعدادهم – وخصوصًا تحت ضغوط الخارج – لإنجاز التحول الديموقراطى، ولكن بشروطهم هم. وهى بكل ببساطة التدريج الشديد الذى يكاد يصل إلى البطء المتعمَّد، واحترام الخصوصيات الثقافية الذى يكاد ينفى معالم الديموقراطية الأساسية وأبرزها تداول السلطة، والانفراد بالحكم الذى يمنع هيكليًا المشاركة الحقيقية للجماهير وللنخبة معًا فى عملية صنع القرار.
غير أنه – بالإضافة إلى مطالب الداخل المتصاعدة، والتى أخذت شكل الحركات الاحتجاجية الاقتصادية والسياسية – هناك ضغوط الخارج، وأبرزها ضغط الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى على الدول العربية السلطوية. وقد اتخذت الضغوط الأمريكية بحكم الهيمنة المطلقة على النظام العالمى وجسامة المصالح الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، أشكالًا محددة تستحق التأمل.
فقد برزت فكرة الشرق الأوسط الكبير، والذى كان يراد منه إدماج إسرائيل فى المنطقة، على أن تكون هى ضابطة الإيقاع، بحيث تصبح الدول العربية المختلفة أشبه ما تكون بدول من الاتباع تحت القيادة الإسرائيلية، بحكم تفوقها العسكرى وتقدمها العلمى والتكنولوجى.
وقد فشل هذا المشروع لظروف متعددة.