فى مقالى السابق، لامست حقيقة الأسرار السوداء وكيفية صناعة الثورات، وألقيت الضوء على المخططات الشيطانية، والتدابير «القذرة» للاستخبارات الغربية والأمريكية، لنشر الفوضى فى العديد من البلدان تحت لافتة الثورة، ولم أكن أعلم أن ما أوردته فى المقال من اعترافات وشهادات لرجال الاسخبارات الغربية فى الفيلم الوثائقى «كش ملك.. استراتيجية الثورة»، سيكون محورا لجدل واسع فى أوساط المهمومين بما جرى ويجرى على الساحة الإقليمية، فهذه الشهادات الصادمة بمثابة دستور جرى تطبيقه فى رومانيا وأوكرانيا، ثم البلدان العربية التى حدث فيها ما أطلق عليه «الربيع العربى»، فقد كانت هناك قواعد أساسية، اختيار المعارضة المقبولة ودعم المنظمات الحقوقية لفضح ممارسات الأنظمة والترويج الإعلامى الكاذب ثم قتل المتظاهرين، باعتباره ضرورة وفق المخططات، وعنصرًا أساسيا فى توسيع دائرة الاحتجاج، لإسقاط الأنظمة وما يتبع ذلك من فوضى عارمة وصراع على السلطة بين القوى المتناحرة، ثم الاتفاق بين المعارضة المصنوعة على تقسيم مناطق السيطرة إلى دويلات صغيرة، وبعدها تدخل الشركات العالمية للإعمار والسيطرة على الثروات. هذا يدلل على أن الأحداث التى تعصف بالعالم العربى وتلقى بشعوبه خارج سياق الزمن، ليست مجرد رغبة فى تشجيع الشعوب على اقتناص حق حرية التعبير والاستمرار فى الاحتجاج لكسر الإرادة السياسية المقيدة للحريات، فالأمر يتجاوز تلك النظرة الضيقة، المحدودة ويذهب إلى صناعة الفوضى وتدمير منهجى للبلدان، خاصة الأقطار العربية لتقسميها على أساس مذهبى وطائفى وعرقى. لكن ما يثير الدهشة أن مجتمعانا ظلت تدور فى فلك المصطلحات البراقة التى جرى ترديدها على نطاق واسع فى صفوف الجماهير العربية ووجدت مناخا خصبا للرواج فى الميديا والمؤلفات المتناثرة فى المقالات والكتب والدراسات البحثية، ولا أنكر أننى قرأت العديد منها فى أجواء الزخم المحاط بضبابية، باحثا عن ضوء يبدد عتمة المخاوف من المجهول. استمعت وشاهدت وقرأت على مدار سنوات الخيبة العربية، الكثير والكثير عن شجاعة المحتجين ضد أنظمة الحكم، وهم يقفون بصدور عارية أمام رصاص البنادق ويجعلون أجسادهم عائقا أمام جنازير المدرعات، شعرت بأننى أمام وهج مشتعل من الخطب الرنانة، ذات الوقع الحماسى والثورى، هذه المصطلحات أخذت الكثيرين بسحرها وبريقها إلى عوالم الروايات الأدبية، التى كان لها الأثر فى ترسيخ المبادئ الإنسانية والقيم الاجتماعية، والاقتداء برموز سياسيين ومناضلين ثاروا ضد الظلم والاستبداد، وقادوا الشعوب للتحرر من أغلال القهر، لكن هذا التشجيع على الحماس، أغفل جوانب مهمة، فى مقدمتها التفرقة بين المعارضة السياسية ومناهضة قوى الاحتلال، فالدروس المستفادة من المأثورات فى الكتب والروايات، هدفها الحث على الوطنية، وليس الاستقواء بالخارج لتخريب الأوطان جراء الغضب من الأنظمة.
استحضرت النخبة من قواميس اللغة مفردات تريح صدور الناس وترضى أهواءهم، لذا توهم بعضهم فى لحظات «الطيش» والمراهقة السياسية، أن الفوضى ستحرر الشعوب من الديكتاتوريات، فضلا عن جوانب أخرى هدفها تغييب العقول وحشوها بالأكاذيب لمواجهة مؤسسات الدول بهدف تفكيكها وإسقاطها، حدث هذا فى العراق ويحدث فى سوريا وليبيا، وكاد يحدث فى مصر عبر تشتيت جهود المؤسسات الصلبة فى العديد من المواجهات لإنهاك قواها وإرباكها، مرورا بالهجوم المفتعل من الحمقى فى وسائل الإعلام، إلا أن تلك المحاولات جميعها فشلت، بسبب قدرة قيادات تلك المؤسسات على امتصاص الغضب المندفع بلا وعى. فى هذا السياق، غاب عن الذين فوضوا أنفسهم ولاة أمور الشعوب العربية، وأرادوا أن يقودوها للمجهول، أن تلك الشعوب لم تكن طرفا فى الصراع على السلطة أو أدوات فى الصراع الذى تديره قوى دولية لها مصالح استراتيجية، وتشارك فيه بالمال أطراف عربية ترغب فى تصفية حسابات شخصية، لكن الشعوب تحولت بقدرة قادر إلى ورقة تلوح بها جماعات المصالح فى الداخل، للحصول على المعلوم من الخارج لإسقاط أنظمة الحكم بالسيناريوهات التى حددها دستور صناعة القلاقل تحت لافتة الثورات.. أنا هنا لا أدافع عن الحكام الذين أسقطتهم الأحداث المفتعلة من فوق عروشهم سواء كان حسنى مبارك أو بشار الأسد أو معمر القذافى ولن أدافع عنهم، كما أننى لم أضبط نفسى يومًا متلبسًا بالتعاطف مع أى منهم رغم قناعاتى الراسخة بأن ما يحدث فى منطقنا العربية هو صناعة أمريكية أوروبية عربية خالصة، امتزجت فيها المصالح الدولية بالمال العربى لتحقيق مخططات استراتيجية معدة سلفا، فالقراءة الموضوعية لما يحيط بالمشهد العربى من تشابكات، لا يمكن إقصاؤها بعيدًا عن تعقيدات المصالح الدولية فى المنطقة، فالجميع يعلم أن تنظيم داعش الإرهابى بتوغله داخل المناطق الاسراتيجية من حلب الى الموصل، استنزف قدرات الجيوش فى حروب ومطاردات، لكن فى المقابل راحت معظم الأنظمة العربية تدعم وتبارك ما يجرى من أعمال تخريبية تحت لافتة ثورات الربيع العربى من أجل التغيير. قراءة الواقع بقدر من الموضوعية والتجرد، تؤكد أن تورط بعض القوى الإقليمية فى دعم المخططات الدولية، الرامية لزعزعة الاستقرار وتضييق الخناق على أنظمة الحكم فى البلدان العربية لن يكون بمنأى عنها، فتلك المخططات، ليست معنية بمصلحة الشعوب أو بالديمقراطية، حسب المزاعم الرائجة إعلاميًا، خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية قطعت شوطا كبيرا فى دعم أنظمة الحكم العربية وهى نفسها التى تقوم الآن بتوجيه الاتهامات ضد تلك الأنظمة بعد انتهاء دورها، صنعت القاعدة، ثم حاربتها بعد انتهاء دورها، ثم صنعت داعش، وتزعم بأنها تحاربها الآن وهذا التناقض القائم على التغير يلخص الموقف بأكمله. لكن المثير للدهشة فى كل ما يجرى حولنا من عبث، عدم قدرة المعارضة، على فهم الدور المنوط بها، فالمعارضة الوطنية بحسب فهمى للتاريخ لا تتسكع على نواصى منظمات التمويل الأجنبية، لا تطالب بتدخل دولى فى شئون بلادها مهما كان الثمن الذى تدفعه مقابل التصدى لسياسات أنظمة الحكم. أما المنظرون للفوضى بابتكار مصطلحات براقة لهدم البلدان نكاية فى الحكام، فهؤلاء يعيشون خارج سياق الواقع، قد يتمتعون بعض الوقت بترف التنظير عن المثل والقيم الثورية، إلا أن الأحداث والرؤى العقلانية ستتجاوز أطروحاتهم، التى يرددونها بدون حياء وبدون التوقف أمام الحقائق الدامغة، التى تؤكد على أن ما يجرى على اتساع المنطقة العربية هو استمرار لصراع معلن على أهداف عمرها عقود طويلة، ومعظمها معروف للكافة.