لا يختلف أحد على أن الصحافة تواجه أزمة حقيقية خلال السنوات العشر الأخيرة على صعيد الاستمرار، والوظيفة، والقراء والتمويل، وعناصر الإنتاج والتوزيع وغيرها من مستلزمات هذه الصناعة التى تشكل الرأى العام، وتمثل سلطة رابعة تراقب السلطات الثلاث داخل البلاد، ربما نتيجة الارتفاع الجنونى فى أسعار الورق والطباعة ومستلزمات الإنتاج، وربما نتيجة الانخفاض الكبير فى سوق الإعلانات والتوزيع الذى وصل إلى أدنى مستوياته، وربما بسبب زيادة أعداد الصحف نفسها وظهور وسائل منافسة كالمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعى، وربما بسبب استمرار تخلى نقابة الصحفيين عن دورها المنوط به فى الحفاظ على المهنة ومواجهة تحدياتها، والارتقاء بكرامة الصحفى دون أن يتصارع أعضاء المجلس الجديد على المناصب الداخلية فى أول اجتماع بعد انتخاب عبدالمحسن سلامة نقيبًا! على أى حال فهناك تحديات تواجه الصحافة لا بد أن تنتبه إليها النقابة بمجلسها الجديد، أبرزها كيفية مواجهة انخفاض أرقام التوزيع للصحف المطبوعة وتراجع العائدات الإعلانية، وارتفاع تكلفة الإنتاج كالورق والطباعة وحماية الصناعة من الانهيار، وسيادة التوجه النفعى الرامى لزيادة الربحية وتعظيم الإيرادات على الصعيد الاقتصادى، وضعف معدلات القارئية، وتراجع التزام الصحف بقيم وأخلاقيات العمل الصحفى، والمسئولية المهنية، وفضائح لجنة القيد بالنقابة التى تضم موظفى المعاش المبكر وربات البيوت و«الناشطين» وفتيات الإعلانات ومن لا مهنة له بجانب شباب الصحفيين المحترفين، وأزمة البدل والحاجة لزيادته بانتظام سنويًا بالتوازى مع معاشات الصحفيين، وأزمة الإسكان ومشروع العلاج وتغيير قانون نقابة الصحفيين الموجود منذ ٤٧ سنة حتى الآن، وكيفية تنمية موارد وصندوق النقابة وضوابط قبول الصحفيين الإلكترونيين بالقيد.. وقد أدى انتشار المواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا أو مواقع التواصل الاجتماعى كالفيس بوك والتويتر وغيرها إلى اختفاء بعض الصحف المطبوعة فى الدول الغربية مثل أمريكا التى اختفت فيها ٤٤ صحيفة يومية خلال خمس سنوات فقط، بالإضافة إلى اندماج الكثير من الصحف المسائية مع الصحف الصباحية المنافسة لها فى المدن الأمريكية، وتراجع معدل توزيع الصحف فى الولايات المتحدة من ٦٢.٣ مليون نسخة يوميًا إلى ٦٠.٧ مليون نسخة يوميًا، واستمرار هذا التناقص بمعدل ٨.١٪ خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، حيث قدرت خسارة صناعة الصحافة هناك على صعيد القراء حوالى ٦.٥ مليون قارئ. صاحب ذلك تراجع دخل الصحف الأمريكية من الإعلانات بمعدل ٦٪ فى نفس الفترة. كما شهدت الصحافة فى العالم الغربى تغيرات ملحوظة فى أنماط ملكيتها، وفى هياكلها الإدارية والتحريرية، وفى اقتصادياتها وهياكلها التمويلية، وفى تقنيات وتكنولوجيا إنتاجها، تطلب معه حدوث تعديلات جوهرية فى سياسات غرف الأخبار، وفى مفاهيم المسئولية المهنية للصحافة تجاه القارئ والمجتمع، وهو ما ينبغى أن ننتبه إليه فى صحافة بلدنا اليوم، فقد أدى هذا التحول إلى أن أصبحت هذه الوسائل كيانات اقتصادية فى المقام الأول، تسعى إلى تعظيم الربحية، وتستجيب لمتطلبات السوق، بشكل أكبر من حرصها على تحقيق أهدافها المهنية والثقافية. الأمر الذى دعا البعض إلى المطالبة بإنقاذ صناعة الصحافة من خلال حتمية التحول من الصحيفة المطبوعة إلى الصحيفة الإلكترونية، نظرًا لتحقيقها هامشًا كبيرًا من الربحية، من خلال زيادة المساحات الإعلانية بها. حيث تشير الدراسات إلى أن العائدات الإعلانية لهذه الصحف فى أمريكا قد بلغت ٢٠٠ مليون دولار عام ٢٠١٤، أضف إلى ذلك انخفاض تكاليف الصحف الإلكترونية بسبب تلاشى نفقات شراء الورق ومستلزمات الإنتاج وتكاليف التوزيع، التى تستهلك حوالى ٧٥٪ من إجمالى دخل الصحيفة، ناهيك عن أن معظم الصحف المصرية تعانى من مظاهر الجمود والتخلف الإدارى الناتجة عن سيادة أنماط من القادة، يتم اختيارهم ربما على أسس تعلى من شأن الولاء والثقة على حساب اعتبارات الخبرة والكفاءة، الأمر الذى أدى إلى حرمان الأجيال الجديدة من المشاركة فى تحمل المسئولية والإدارة، والمشاركة فى صنع القرارات فى مؤسساتهم، وعجز هذه المؤسسات عن مواكبة الثورة الإدارية الحديثة. فلا بد أن تعيد صحافة اليوم هيكلة نفسها، لمواجهة التغيرات المستمرة فى تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والتى يفترض البعض أنها السبب الرئيسى وراء التهديد باختفاء الصحافة المطبوعة، ولا بد من توظيف الإمكانيات والتطورات الراهنة فى تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات كنوافذ فى تقديم طبعات إلكترونية من الصحف لجذب جيل جديد من القراء إليها، وتطوير المواد والمضامين الصحفية للحفاظ على القراء الموالين للإصدار المطبوع.
وينبغى إعادة تعريف المهام المطلوبة من الصحف، وتطوير البيئة الثقافية والاتصالية التى تعمل بها، من خلال طرح وسائل إلكترونية مكملة لدور الصحافة المطبوعة، بحيث تتحول المؤسسات الصحفية من مجرد مؤسسات تصدر الصحف إلى مؤسسات منتجة للمعلومات. وقد يكون الاهتمام المتزايد بتحقيق الأرباح وتعظيم الإيرادات من المصادر المختلفة خاصة الإعلان والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والإدارية فى عدد من الصحف على حساب الجوانب المهنية إلى تراجع القيم المهنية، وأخلاقيات ومعايير الممارسة الصحفية، فى مقابل تصاعد القيم الاقتصادية، وغلبة الاعتبارات والمصالح الشخصية، الأمر الذى أضر بالمسئولية الاجتماعية للصحف إزاء القراء وقضايا المجتمع، وأدى فى النهاية إلى انصراف نسبة لا يستهان بها من القراء عن الصحف، باعتبار أن سياساتها التحريرية لا تعبر عن رغباتهم واحتياجاتهم الفعلية، وإنما تعبر عن مصالح ملاكها والمعلنين بها، والقوى الفكرية والاجتماعية التى تساندها.. لا بد أن توجه نقابة الصحفيين والهيئة الوطنية للصحافة، كل هذه التحديات والسعى إلى علاجها بأسرع وقت، ولا بد من عقد مؤتمر لنقابة الصحفيين يتناول الأزمات والتحديات التى تواجه مهنة الصحافة، والسبل إلى حلها من قبل خبراء وشيوخ المهنة والأكاديميين وحماية الصحافة من الانقراض والحفاظ على الصناعة دون خسائر، والاستفادة من تجارب الغرب فى هذا الشأن.
قبل البكاء على اللبن المسكوب!.