بقلم – رفعت السعيد
ونمضى قدما مع نقولا حداد، لنفتش عن الكنوز التي خبأها في كتابة “علم الاجتماع”، فطوال رحلته الممتعة مع هذا الكتاب حاول أن يرسى قواعد الفهم العملي لتاريخ تطور المجتمعات ودوافع وبواعث هذا التطور، أي أنه ودون ضجيج حاول أن يلقن القارئ بصورة مبسطة وبأمثلة قريبة من الذهن نظرية المادية التاريخية التي تقوم على أساس دراسة تطور المجتمعات وفق قوانين الجدل، ويبدأ نقولا حديثه عن هذا الموضوع مؤكدًا أن كل شيء لا بد أن يخضع لقوانين التطور، إن هذا التطور هو نتيجة منطقية وحتمية لصراع الأضداد داخل المجتمع ذاته، ويقول “فالطبيعي قابل للتغيير لأن عناصر الكون المختلفة مناهض بعضها لبعض وكل ما تراه تغيرات هو نتيجة طبيعية لهذا التناقض” (الكتاب الأول – ص١٠) ثم قانون آخر من قوانين الجدل يقدمه محاولا تبسيطه قائلا “ومن أفدح الأغلاط القول السائر بين الناس أن التاريخ يعيد نفسه، فإذا كان فصل واحد من فصول السنة لا يتكرر بكل تفاصيله في العام التالي ولا بعد عشرة أو مائة أو ألف عام، وإذا كانت الأرض لا تدور حول الشمس في نفس الدائرة التي دارت فيها في العام السابق، وإذا لم يحدث أو يمكن أن يتكرر شيء في الوجود مرتين متماثلتين تمامًا، فكيف يمكن أن يتكرر حدث تاريخي.
وهكذا فإننا إذا قلنا إن هذا الشيء طبيعي المعنى أنه نشأ هكذا وهكذا سيبقى إلى الأبد بل هو حتمًا يظل متطورًا على الدوام، وتحوله من حال إلى حال لا يبطل طبيعته لأن التطور نفسه نتيجة لتفاعل السنن الطبيعية أو هو حاصل تفاعل متناقضات الطبيعة فيما بينها”، ثم يتخلى نقولا عن الشروح الفلسفية ليشرح علم تطور المجتمعات بادئا من مراحل تطوره الأولى “ففى أوائل عهود الاجتماع كان الناس لا يعملون إلا بقدر ما يحتاجون.. أي يعملون لأجل توفير احتياجات معيشتهم فقط، ولكن لما أصبح القوي يستطيع أن يعيش على عمل الضعيف، ويرغم الضعيف على العمل لتوفير احتياجات معيشته ومعيشة سيده القوي، وإذا كان الهدف من الاسترقاق (أي اتخاذ مجموعة الضعاف رقيقًا للسيد، فقد فرض على الرقيق العمل المضاعف ومن ثم نشأ الميل عند الأسياد إلى جمع ثمرات العاملين، وصاروا يحاولون أن يخرجوا من قوة عمل الرقيق أقصى ما يمكن استخراجه” (الكتاب الأول – ص ٢٣١) ويمضي الحداد ليزيد الأمور تبسيطًا ووضوحًا فيقول، وهكذا بدأ القوي يستعبد الضعيف ليس فقط في العلاقات الطبقية، إلى أن أصبح السيد المسيطر يستند في تحصيل رزقه وفي الدفاع عن ممتلكاته على عبيده ويعيش عالة عليهم.. وهكذا نشأت طبقة الأعيان المترفين الذين لا يعملون بأيديهم وإنما يعيشون على حساب الكادحين”، ثم ليتوصل نقولا بقارئه إلى مبدأ مهم هو “العمل لدى الغير هو نوع من الاستعباد ويقدم نموذجًا للعلاقة بين العامل وصاحب العمل نافيا عنها صفة التعاقد الاختياري التي طالما تغنى بها اقتصاديو الرأسمالية”، ويقول “فتدعى مما تقدم أن الإنسان لم يتطور للعمل والكدح لتحقيق أكثر من احتياجات معيشته من تلقاء نفسه بل لقد أرغم ولم يزل يرغم على ذلك، وهو لم يعمل لكي يتمتع بثمرة عمله وإنما لكى يبقى كرباج السيد أو تعذيبه أو حتى سيفه”، وبعد هذا العرض المبسط يستخرج نقولا الحداد نتيجة مهمة فيقول “ولا يزال نظام العمل حتى الآن نوعًا من أنواع الاستعباد، لأن العامل مضطر أن يعمل لكى يعيش ولكي يوفر حياة البذخ والترف لصاحب العمل، وألا يموت” (الكتاب الأول ٢٣٢)، ثم ينتقل بنا تدريجيًا حتى يصل إلى قانون مهم هو “أن المسئول عن ذلك هو نظام الملكية الخاصة وقد كان من أهم نتائج هذا النظام استقطاب الثروة إلى جانب الأسياد، والفقر المدقع إلى جانب العبيد أو بالدقة الثروة إلى جانب صاحب العمل والفقر المدقع إلى جانب العامل”، وكان نقولا حداد يكتب ذلك في فترة يسعى فيها الرأسماليون لتأسيس شركات مساهمة يمكنها أن تنشئ مشاريع إنتاجية كبيرة، ويقول “إن لهذه الشركات الفضل فى إنشاء مشاريع كبيرة، ولكنها من ناحية أخرى تحتكر الأعمال فتصبح تحت سيطرتها، وتعود أرباحها إلى أصحاب رأس المال وحدهم.. وهذا هو سبب الاستقطاب الاقتصادي أي تمركز المال في جانب قليل من الأفراد، وتمركز الفقر فى جانب العمال” (ص٧٦)، ويمضي نقولا ليشرح كيف تمركز رأس المال في يد المستثمرين وتمادوا في ذلك، كلما ازداد نضال العمال، ومن الطبيعي أن تواجد تشكيلات مجمعة للمستثمرين ينشأ في المقابل تنظيمات عمالية لمقاومة الاستغلال ولحماية أنفسهم، يتحالفون فيها ويتحدون من أجل المطالبة والاحتجاج والإضراب والاعتصام حسب مقتضى الحال، مناهضين الشركة المساهمة ومطالبين بزيادة الأجور وإنقاص ساعات العمل” لكن النقابات وحدها لا تكفى بل لا بد أن تكون هناك أحزاب تسعى للعودة للاشتراكية وبذل الجهد من أجل تحويل السلطة إلى يد الحزب الاشتراكي، وهكذا عبر رحلة طويلة التف فيها نقولا الحداد عبر منحنيات منطقية يفضي كل منها إلى الآخر، ودون أن يدع مجالا للخصوم من احتلال أو قصر ملكى أو أصحاب الأموال للاعتراض على ما يقول بل يمرر كلماته من تحت أنوف الجميع.. مؤكدا أن الطريق الحتمى هو تحقيق النظام الاشتراكي، بل هو وببساطة يتظاهر بالإرادة، يقول إنه “لا إرادة للإنسان في تحقيق هذه الخطوة”، ويؤكد “لا إرادة للإنسان في تحقيق الرقى التمدني”، ويتساءل “هل الإنسان يدفع التمدن إلى الإنسان بمطلق إرادته؟ ويجيب: “كلا، ففي كثير من الأحيان نجد كثيرين من المواطنين يقاومون الاشتراكية رغم أنها تحقق مصلحتهم، كما كان الناس في الماضي يقاومون الروح الديمقراطية، بل إن العبيد في بعض الأحيان كانوا يقاومون فكرة تحريرهم لأنهم كانوا يخافون من الاستقلال بحياتهم اليومية، لكن العبيد تحرروا ليس فقط رغم إرادة السادة بل ورغم إرادة بعضهم، وأيضا الديمقراطية تحققت رغم إرادة الحكومات المستبدة ورغم خنوع بعض العبيد للعبودية”.
ونواصل..