كتبت أكثر من مقال أُحذر فيه من تنامى ظاهرة البلطجة فى الشارع المصري، كتبت لكى يعود الشارع ومفردات الأمان ترفرف عليه، كتبت ولكن من الواضح أن المهمة صعبة على مُتخذ القرار، فما زال العنف متأصلًا مثل الجينات الوراثية، مافيا الرصيف نجحت باقتدار فى تأسيس قانونها الذى تعجز أمامه ترسانة وزارة الداخلية ومجلدات القوانين الرادعة لها، والعنف الذى يبدأ من العدوان اللفظى بالشارع، وينتهى بالسيف والسنجة والمطواة قرن الغزال يدفع الناس دفعًا إما للانزواء والمشى بجوار الحوائط، أو الانخراط فى تلك المنظومة القميئة بعنف مضاد.
وبنظرة سريعة على صفحات الحوادث بالصحف اليومية، سيعرف أن مؤشر انهيار الأخلاق يتسارع نزولًا نحو القاع، مئات القصص المُحزنة نسمع عنها يوميًا ولا نمتلك حيالها إلا مصمصة الشفاه والتوجه بالدعاء أن يزيح الله عنا تلك الغُمة، شاب مُلتحٍ ينهى صلاته فى غرفته ويخرج إلى الصالة ليُنهى حياة أمه وشقيقه، صبى صغير يبيع البانجو يواجه رجلًا عجوزًا يقف فى محل بقالته ويطعنه طعنة قاتلة، فتاة متهورة تقود سيارتها وتدهس متعمدة خصومها، وهكذا دواليك قصص متكررة موجعة لا نهاية لها.
كنا نقول إن بداية السلوك المحترم ترجع إلى البيت والمدرسة، ترجع إلى الثقافة والإعلام، ترجع إلى المسجد والكنيسة، ويأتى فى آخر المرجعيات القانون وسلطة الضبط، الواقع يشير بوضوح إلى تراجع دور البيت بعد أن دخلت مطاردة لقمة العيش لتفصل بين الآباء والأبناء، دخل الإنترنت شريكاً للأب والأم فى التربية، اعتدى وبكل قسوة التليفزيون بمسلسلاته الفجة، والسينما بعنفها المُفرط والمدرس بدروسه الخصوصية ودور العبادة بتحزبهم، اعتدى الجميع على المستقبل فصرنا نشاهد رصيفًا موحلًا بالعنف والسباب والجريمة.
ينعكس ذلك السلوك اليومى بين أفراد المجتمع العاديين صاعدًا نحو النُخبة فى الثقافة والسياسة، العنف داخل ذلك المحيط لا يقل ضراوة عن عنف باعة البانجو وقُطاع الطرق، ونظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعى ستقول لك إن الإرهاب فى منتجه النهائى هو ابن شرعى لحالة الجنون التى سيطرت على المُختلفين سياسيًا، ليس من حقك الاختلاف أو التفكير أو إعلان وجهة نظرك، التهم جاهزة ضدك كمنافق وطبال وعميل للأجهزة، إذن لتركب موجة الزعيق والصخب لتنجو باسمك وإلا فالإعدام المعنوى بانتظارك.
لا أستغرب داعش وإخوته، لا أستغرب السكين قاطع الرقبة والتكبير مع نزيف الدم وإزهاق الأرواح، لا أستغرب ذلك لاتفاقنا منذ البداية أنهم جهلاء وأعداء للحياة، أستغرب من الكاره لنفسه ويتحرك بيننا شاتمًا داعش وممارسًا لسلوكها، هذا الإرهابى المزدوج هو مكمن الخطر وهو الجريمة بذاتها تمشى على الأرض، انحطاط السلوك من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى هو أسوأ توابع التغيرات المفصلية التى تعيشها بلادنا منذ سنوات، أعرف كثيرين اعتكفوا فى بيوتهم خوفًا من تطاير رذاذ البلطجة عليهم، وأعرف معدومى ضمير ينتشرون على كل الساحات مُبشرين بالفساد.
لذلك غابت فكرة المسئولية الفردية فى صيانة المجتمع، غاب العقل وازدهرت الحنجرة والذراع مفتولة العضلات وصارت المطواة قرن الغزال شعارًا للجميع لا فرق هنا بين بلطجى عشوائى تقليدى أو بلطجى متثاقف خبيث، وغياب ضمير المسئولية الفردية لا يعفى بأى حال من الأحوال تقصيرًا مؤكدًا من سُلطة الضبط، فساد مؤكد من مافيا حواتم وزارة الداخلية وأسطورة أمناء الشرطة حتى صار الأمين مُتحكمًا فى رقبة مأمور القسم، هذا الترهل أمر مؤسف، نعم نُحارب الإرهاب فى بؤر مختلفة، ولكن للناس حقوقًا ولا بد من انعكاس تلك الحرب على مسيرة الناس اليومية بأن يشعروا بالأمن داخل بيوتهم وعلى الأرصفة وفى المنافذ الإعلامية، عندما يتحقق ذلك سأقول مطمئنًا إن التغيير قد وصل مصر وإننا انتصرنا.