كنتُ فى نيويورك فى صحبة العالم الكبير الدكتور أحمد زويل، وكان الدكتور زويل الذى اختار أن نقطع عدداً من شوارع مانهاتن سيراً على الأقدام، يتحدث عن الجديد فى العلم والعالم، وكان علىّ أن أبذل جهدا خارقا فى الفهم وجهدا مضاعفا فى الحوار.
ولما أراد الدكتور زويل أن يمتدح إنصاتى وحسن سؤالى- وكانت خُطانا قد أوصلتنا إلى حيث يقع مبنى صحيفة نيويورك تايمز- توقف الدكتور زويل ثم قال: حقا.. إن خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مستوى آخر.
■ ■ ■
كان التحاقى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كمن ينتقل من «الدورى المحلى» إلى «كأس العالم».
انتقلتُ من القرية إلى العاصمة، ومن تميّزى بين أوائل المحافظة إلى تراجعى بين أوائل الجمهورية، ومن الشهرة عبر الإذاعة المدرسية وطابور الصباح.. إلى الغياب وسط عشرات الآلاف فى حرم الجامعة.. ومن الحياة الدافئة بين الأهل والعائلة إلى الحياة الباردة وسط المنافسات القاسية.
■ ■ ■
بينما أنا أُفكِّر وأفكِّر.. ماذا عسانى أن أفعَل بين كل هؤلاء النابغين.. وبينما أواجِهُ تحالفا بين الخوف واليأس.. جاء أحد الزملاء، وبدأنا «دردشة طلابية» مفتوحة.. سألنى عن رؤيتى للمستقبل.. قلت له: أريد الالتحاق بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وأن أصبح كاتبا سياسيا مهما.
نَظَرَ إلىّ بازدراء وقال: أهرام، وكاتب سياسى؟! ما هذا الفشل؟.. ثم واصل القول: ما هى مشكلتُك إذن؟ إذا كان طموحك بهذا المستوى المتدنّى.. فلا أعتقد أنك ستُواجه أى صعوبة.. ببساطة.. من السهل أن تحقق أحلامك، لأنها فى الواقع ليست أحلاما.. بل هى الحد الأدنى.. إنه الإخفاق الذى يُسمّيه الفاشلون نجاحا!
أصابنى الكلام بالصَّدمة.. إن أفضل سيناريو أتطّلع إليه.. رآه زميلى «سيناريو تافه».. لا يستحق عَنَاء السعى له!
ثم كان أن وَصَلَ بالصَّدمة إلى مداها الأقصى.. فأردفَ يقول: بالنسبة لى.. ليست لدى احتمالات متعددة بشأن المستقبل.. أنا لا أطرح أى بديل لقرارى.. إننى أفكر فى أمرٍ واحد.. ببساطة أنا رئيس الجمهورية القادم!
■ ■ ■
بقيتُ مصدوماً لأسابيع.. وتساءلتُ كثيراً.. لماذا يفكر هذا الزميل فى القمة بكل هذه الثقة.. وأنا أفكر فى مستقبل «طبيعى» بكل هذا الفَزَع!
لكنّ زميلى «الرئيس المحتمل» أو بمعنى أدق «الرئيس المؤكد» لم يكن وحده فى هذا المنصب الكبير.. فلقد قابلتُ عشرات الزملاء بعد ذلك ممن أشاروا إلى المنصب الرئاسى فى حديثهم عن مستقبلهم. وأصبحتْ عبارة: «لقد دخلتُ» سياسة واقتصاد «لكى أصبح رئيساً للجمهورية».. جملة سائدة لا تُثيرُ أىَّ غرابة، ففى دفعتنا ذات الثلاثمائة طالب.. كان هناك على الأقل مائة رئيس جمهورية ينتظرون التخرُّج بفارغ الصبر.. للانتقال من «الكلية» إلى «الاتحادية»!
■ ■ ■
كان أساتذتنا- بدورِهم- يُعمِّقون لدينا الإحساس بالسموّ والرفعة.. وبأننا أفضل طلاب فى أفضل كلية فى مصر. وكان من المعتاد أن نقابل الوزراء والسفراء وكبار المسؤولين باستمرار.. مما جعل فكرة السلطة لدينا جزءا من حياتنا التعليمية.
وأذكر ذات مرة أن «الرجل الثانى فى مصر» الدكتور رفعت المحجوب.. رئيس مجلس الشعب كان يزور الكلية.. وكان فى مكتب العميد القوى الدكتور أحمد الغندور. كنتُ وقتها قياديا بارزا فى اتحاد الطلاب، وكنت على تواصل دائم مع الإدارة وهيئة التدريس.. جاءتنى سكرتيرة العميد وقالت لى: إن الدكتور العميد يطلبك فى مكتبه من أجل «توصيل» الدكتور رفعت المحجوب إلى خارج الكلية!
ذهبتُ.. فخورا باختيارى لهذه المهمة البروتوكولية الرائعة.. وانتظرت قليلاً حتى خرج «العميد» وقال لى: اذهب مع أستاذك حتى الباب الخارجى. خرجتُ من المكتب بصحبة رئيس البرلمان وسط ذهول من رأونى.. وقد اعتقدوا أننى «طالب مهم للغاية» وأن لى صلة كبيرة بقادة الدولة وكبار المسؤولين.
سألنى الدكتور المحجوب عن المواد الدراسية ومستوى الأساتذة ومواعيد الامتحانات.. ولكن بَدَا لبعض زملائى ممن رأوْنا.. أن رئيس السلطة التشريعية يستطلِع رأيى فى قضايا الإصلاح الاقتصادى وتطورات الوضع فى الشرق الأوسط!
عدتُ إلى مكتب العميد الذى شكرنى.. ثم قال لى: هل تعرف لماذا طلبتُ منك أن تذهب لتوصيل رئيس مجلس الشعب.. ولم أذهب أنا؟.. قلت له: لا.. ولكننّى تشرفتُ بذلك.
قال الدكتور الغندور: أولاً.. أردتُ أن أعطيكم الثقة، وأن أكسر عندكم حاجز الخوف من السلطة.. كما أردتُ أن أمنحَك سطوراً فى سيرتك الذاتية.
ثانياً.. أريدك أن تعرف- أنت وزملاؤك- وأن يعرف هو أيضا- أن مقام كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. هو مقامٌ رفيع.. ومكانتها هى مكانةٌ سامية.. وأن العلم فوق السلطة، والجامعة فوق السياسة.
■ ■ ■
النخبة صناعة.. وكما أن هناك مصانع للمادة، هناك أيضا مصانع للإنسان.. ومصانع للنخبة. ليست كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة هى الرافد الوحيد للنخبة.. ثمّة نخبةٌ عريضة واسعة تتمدد فى جامعات ومؤسسات بلادنا.
وثمة أسماء عملاقة ورموز بارزة ممن تخرجوا فى كليات وجامعات مصر المختلفة.. لكن بريقا خاصا لا يزال يحيط بتلك النخبة الرائعة التى تخرجت فى تلك الكلية الأسطورية.
إن بعضاً ممن تخرجوا كانوا عبئاً على العلم والوطن.. ولم يساهموا على النحو المأمول فى خدمة المشروع الحضارى المصرى.. لكن ذلك لم يكن سوى سياق محدود فى إطار واسع من النبوغ والامتياز.. من المعرفة والرسالة.
لقد تذكرت هذه السطور من كتابى «مصر الكبرى» بينما تستعد «كلية النخبة» للاحتفال بتخريج دفعة جديدة وتكريم دفعات رائدة.
إنّنى أهنئ كليّتى وزملائى الذين تشرفت بصحبتهم.. فخورا بما امتلكوا من علم غزير وخُلُق رفيع.. وبما قدموا من أداء عظيم.
تحية لمصنع النخبة فى مصر.. كل عام وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة بكل خير.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر