بقلم – رفعت السعيد
معقدة ومثيرة للدهشة هى قصة المصريين وحكامهم. هى علاقة غريبة وربما فريدة من نوعها. ومهما كتبنا وسنكتب لن نستطيع أن نفك طلاسم هذه العلاقة. فالمصريون يبدون هادئين ساكنين مسالمين، غاضبين أو حتى راضين، لكنهم فى كل الأحوال يتربصون بالحاكم.
إنه الحذر المغلف بالخوف الأزلى والمتربص الحكيم الذى يستثيره تعجرف الحاكم أو تباسطه.
لكن هذه الحالة المركبة من الخوف والرفض والحذر والسخط والرضاء سرعان ما تفور فى بوتقة غير مرئية، ليلخص ذلك كله فى كلمة واحدة إما رفض أو قبول. ونادرون هم الحكام الذين نالوا قبولًا ومحبة. أما الآخرون فللمصريين منهم الكراهية الصامتة التى هى أشد قسوة حين تنفجر من الرفض.
هناك خزانة خفية يدخر فيها ضمير الشعب المصرى كلمات عديدة: الباشا، الوالى، المحتسب، القواص، المفتش، المخبر، المرشد، الينكرجى، الضابط، المحافظ، السيّاف، الرئيس، السجّان، الإرهابى، كلها تختلط معًا وربما تكمل بعضها بعضًا، ليصبح الجزء بديلًا عن الكل، والحاضر مجرد استنساخ للسابق. الخازوق، الكرباج، التوسيط، القنبلة المسيلة للدموع، المشنقة، الحبسخانة، السلاح الأبيض، الخرطوش، الرصاص، البلطجي، الجهاز السرى، الجنازير، الإعلام الجاهل، الأموال المسمومة، الفضائيات المتأسلمة، الإعلام الخاضع، الصعق بالكهرباء، مجلس الشورى، الاستفتاءات المزورة. كل ذلك يختلط فى ذات البوتقة ليلهم العاقل والمتعقل، الساكت والناطق، من صدق ومن لم يصدق القدرة على الفعل غير المتوقع، والذى يأتى فجأة كاستجابة وراثية المحتوى لتنفجر فى زمن غير متوقع، وتأتى دون استئذان ودون حتى قرار مسبق.
وأسأل فى حيرة من علم الفأر أن يكره القط وألا يأمن له؟ من أين يأتى هذا الماس الكهربائى غير المرئى، بل وغير المدرك، والممتد عبر أسلاك تعبر بنا آلاف السنين إلى الوراء وأخرى مثلها لم تأت بعد؟ مَنْ علّم المصرى أن يقول «السلطان من ابتعد عن السلطان، وإن كان ذراعك عسكرى اقطعه، واللى يتجوز أمى أقول له يا عمى، وأسمع كلامك أصدقك وأشوف أمورك أستعجب».
ومن علمه أن يرفض سيف المعز وذهبه، ومن علمه أن نصف الناس أعداء لمن ولى الأحكام هذا إن عدل.
فما بالك لو كان الحاكم مستبدًا، منفردًا بالقرار، يخطئ ثم يخطئ ثم يكرر الخطأ ولا يتعظ، ويبيع الوطن لجماعته وحتى لو حاول أن يدفعه للاستكانة مؤكدًا.. أن العين متعلاش على الحاجب، وأن الميه متطلعش فى العالى؟ ثم من شجعه على الثورة مؤكدًا أن «الثعبان اللى ما يعضش الحبل أحسن منه»؟
ثم مَنْ علّمه أن يتحايل على الحكام مهما كانت سطوتهم؟. فعندما كان يوم إعدام الوردانى خرجت المظاهرات لتدهش وحوش الاحتلال وهى تغنى باكية
قولوا لعين الشمس ما تحماشى
لحسن غزال البر صابح ماشى
وعندما منع جنود الاحتلال أى هتاف لسعد زغلول وهو فى منفاه، تظاهروا هاتفين «زغلول يا بلح يا بلح أمهات» ولم نكن فى أوان البلح».
وفى عام ١٩٣٥ وتحديًا لكل القادة المتخاصمين لنزعات شخصية هتفت المظاهرات «الشعب يريد سعد فريد». إنها التركيبة العبقرية لزعامتين مهيبتين سعد زغلول ومحمد فريد. وفى مظاهرات ١٩٦٨ احتجاجًا على أحكام مخففة للقادة المخطئين، حرص المصريون على معاقبة القائد المهزوم والمحبوب دون أن يهاجموه فهتفوا يسقط سبيرو سباتس. إنها أول لافتة لمحوها معلقة على أحد المحلات. وفهم الجميع بمن فيهم القائد، ووجم المخبر والعميل فما من دليل إدانة.
لكن النفاق ظل موجودًا، بل هو قوت يومى وخاصة فى أروقة المثقفين خدام السلطان، التابعين للرئيس، الهاتفين فى الفضائيات الصائحين فى أروقة المساجد كل حسب قدر شرفه وقدرته على قول الصدق أو حتى قدرته على النفاق. وللنفاق آفاق غير محدودة. ألم يقف ابن هانئ الأندلسى أمام المعز لدين الله الفاطمى صائحًا وبلا حياء.
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبى محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
والرفض يأتى همسًا فبينما يصلى المعز لدين الله بالناس فى الأزهر زاعمًا معرفة الغيب، تسللت ورقة من مصلٍ إلى آخر حتى وصلت إليه وفيها: «بالظلم الجور قد رضينا – ولم نرض بالكفر والجنابة، إن كنت تقرأ الغيب حقًا – فاعرف صاحب الكتابة». ولم يجب. ونموذج آخر الخديو توفيق الخائن الذى سلم مصر للإنجليز خوفًا من ثورة المصريين أراد إعلامًا فى خدمته فكتب على باشا مبارك «الحضرة المهيبة الخديوية والطلعة الداورية التوفيقية حضرة سيدنا ومولانا الذى عم الأنام إحسانه وشملهم جودة وامتنانه محيى رفات المكارم، ومشير أركان المفاخر، الشهم الذى اقتاد المعالى بهمته، والذى عنت جباه الجبابرة لهيبته أفندينا محمد توفيق ما زالت أولوية العز خفاقة على هامته، ولا برح الخير مغدقًا على رغبته» [على مبارك – الخطط التوفيقية – الجزء الأول- صـ٢٢]. ألم يقل جوبلز «أعطنى إعلامًا بلا ضمير أعطك شعبًا بلا وعى».