التاريخ حلقات متصلة.. ولأن تاريخ مصر هو تاريخ الحضارة الإنسانية، ويضرب بجذوره في أعماق الزمن.. فإن تاريخ مصر الحديث والمعاصر منذ حوالي قرنين من الزمان ومنذ بداية حكم محمد على، هو تاريخ زاخر بالحداثة والتطور ومحاكاة النهضة الأوروبية.
ولكنه في المقابل جعل من مصر مرمى لسهام كثيرة وأحداث تاريخية باتت جزءاً من نضال هذه الأمة، وشاهداً على عبقرية الشعب المصري في صون ترابه المقدس وحماية دولته الوطنية، وتفرده بهوية يصعب طمسها أو خدشها.
ولم تكن ثورة الزعيم أحمد عرابي إلا تعبيرًا عن رفض الوصاية العثمانية، واستنزاف ثروات الشعب المصري. كما كان الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 سبباً في استدعاء الشعور الوطني. وصلابة المقاومة الشعبية بقيادة الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. وتبلورت في هذه الفترة شكل الحركة الوطنية بقيادة الزعيم سعد زغلول الذي تحول إلى أيقونة الثوار في العالم أجمع. حتى قال عنه الزعيم الهندي غاندي: سعد لنا وللعالم أجمع وليس للمصريين وحدهم، وسار على دربه لتحرير الهند واستقلالها.
الإرهاصات التي شهدتها مصر كانت تشير إلى أن الأمة مقبلة على حادث جلل.. وبعبقرية الفلاح المصري أيقن سعد زغلول أن الشعب هو كلمة السر في أي معادلة سياسية، ولذلك بدأ بعملية التمصير عندما كان وزيرًا للمعارف عام 1906 واهتم بالتعليم وإرسال الطلبة المتفوقين في بعثات إلى أوروبا، واستمر في ذات النهج عندما أصبح وزيرًا للحقانية عام 1910، واستغل عضويته في الجمعية التشريعية «البرلمان» وشغله منصب الوكيل لها عام 1913 للحديث باسم الشعب المصري.
وبمجرد إعلان الرئيس الأمريكي ويلسون مبادئه الأربعة عشر عن حقوق الشعوب وسيادة الدول، قرر سعد زغلول وقيادات الحركة الوطنية في 13 نوفمبر 1918 التحرك والسفر إلى باريس للمطالبة باستقلال مصر، ورفض المندوب البريطاني ونجت سفر الوفد المصري باعتبارهم لا يمثلون الشعب المصري.
هنا أيقظ سعد زغلول الشعور الوطني المصري وطالب الشعب بتوكيله هو وقيادات الحركة الوطنية المصرية للسفر إلى باريس والحديث باسم الأمة المصرية.. وكانت المفاجأة في جمع ثلاثة ملايين توكيل في حوالى أسبوعين فقط، بالرغم من صعوبة الاتصالات والانتقالات في هذا الوقت.
وأدرك الإنجليز خطورة هذا الرجل والتفاف الشعب المصري حوله ودخوله المعادلة السياسية، وأنه لا سبيل في مواجهته ومواجهة تنامى الشعور الوطني إلا بنفيه خارج البلاد.
وبالفعل قامت قوة بريطانية بحصار بيت سعد زغلول «بيت الأمة» يوم 8 مارس. وقام ضابطان بريطانيان باصطحابه إلى ثكنات قصر النيل ومنها إلى بورسعيد. ثم ينقل في مساء هذا اليوم على متن سفينة إلى جزيرة مالطة.
وفى صباح اليوم التالي 9 مارس ينتشر خبر نفى سعد زغلول خارج البلاد. ويبدأ طلاب مدرسة الحقوق في التظاهر وينضم إليهم طلبة الطب. وتنفجر الثورة في كل ربوع مصر تهتف وتنادى بحياة سعد. وأدهش المصريون العالم عندما تحولت مصر إلى طوفان في مواجهة الإنجليز.
ولم يكن العنف الإنجليزي مع المصريين إلا وقودًا يزيد الثورة اشتعالاً حتى بدأ العالم يتحدث عن الثورة الكبرى في مصر أو ثورة الشرق التي ألهبت مشاعر كل شعوب الشرق ضد الاحتلال. وهزت أركان الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وتضطر بريطانيا للإفراج عن سعد زغلول ويستقبله الشعب المصري استقبالاً لم يحدث له مثيل في التاريخ. كما وصفته صحيفة التايمز البريطانية التي قالت في عناوينها إن سعد زغلول اليوم أعظم رجل في العالم.
يبقى أثر ثورة 19 اجتماعيًا في مصر ووضع أسس دولة المواطنة. وترسيخ الهوية المصرية الأسبوع القادم إن شاء الله.
حمى الله مصر من كل سوء
نائب رئيس حزب الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية