صنع من إعاقته قاربًا عبر به «نهر» الظروف لم يلجأ لحيلة بناء العوازل حول نفسه لتحميه من فيضانه، سبح في اتجاه السفينة لم يختر أن يهدر وقتًا في انتظارها..
«الإعاقة» من منظوره عاصفة شديدة تقوى فقط على العيدان الخضراء التي تنحني لها.. لم يقف مكتوفي الأيدي أمام إعاقته بل شدت عوده وزادت من عزيمته يومًا بعد يوم.. لغى من قاموس حياته «إن ولكن» ليستبدل بهما «أنا أستطيع».. ليتوّج مشوار كفاحه بحصوله على بطولة الجمهورية للإعاقات الحركية بجانب بطولة كأس مصر وبطولة الجامعات.
«أشرف طه».. شاب مصحفه أنيسه، تحفيظ القرآن هوايته، وكنزه قناعته، أُصيب بإعاقة في قدميه منذ نعومة أظافره لضعف النمو بهما، مما أفقده القدرة على الاعتماد عليها في السير.. ولكن بعزيمة فولاذية لم يتعثر بحجارة الإعاقة بل بنى بها سلمًا صعد به خطى حياته، ليسخّر منها ما يرضى قلبه ويرضاه، ليجعل من شخصه ذاك الشخص، الوقور في شدته، الصبور في مكارهه، الشاكر في رخائه، تجاهل عبارات الإحباط لم يفعل كالذي قاوم النار بالنار فما حصد سوى الرماد!
فظلام الإعاقة الحالك الذي انغمس فيه لم يستطع أن يخفي ضوء شمعة أمله بربه المضيئة. والتي لا يقوى على إطفائها أحد!.. بل رفع شعار «الإعاقة إعاقة الفِكر وإعاقة الذات على أن تثبت وجودها»، فلم تمنعه من مواصلة مشوار حياته.. فكم من جسدّ سليم وله فكر وتوجهات معاقة!
الإعاقة منحة ومُعاق وصف مميت
«الإعاقة منحة وليست محنة».. هكذا استهلّ الشاب الثلاثيني حديثه تحاول محاولًا السيطرة على الارتعاشة السارية في أوصاله.. مردفًا أن كلمة «معاق» وقعها على السمع وقع الصاعقة، ولن أبالغ إن وصفتها بالمميتة، فأنال ست معاقًا ولكني معافى بثقتي في قضاء الله وقدره..معافى بأهلي وزوجتي وأولادي وأصدقائي ووجود من أحب، فنظرة العزيمة منهم حرَّضتني على كسر حدود إعاقتي بما يعجز عنه أصحّاء البدن. كما أنها أثبتت لي أن الإعاقة لا يمكن تقف في وجه الإرادة.
يشيح الزوج الثلاثيني ببصره صوب نافذة زجاجية مشروخة من المنتصف ليسرد روايته: «منذ أن خطت قدماي الحياة وحاول والدي بقدر الإمكان دمجي في المجتمع، التحقت بمدرسة حكومية بالقرب من منزلي بمنطقة زاوية ثابت في أوسيم، تحدّيت إعاقتي حتى أكملت تعليمي الأساسي والتحقت بكلية التجارة جامعة القاهرة، وتخرّجت فيها من ذوي الاحتياجات الخاصة أتحرك بكرسي متحرك.. ولكن ذلك لم يشفع لي في حصولي على وظيفة ولو بالتعاقد».
بقلب مؤمن يتغلب على علامات الوجوم واليأس المنحوتة على قسمات وجهه ليكمل: «أصريت على ألّا أقف «محلّك سر»، وتحدّيت الإعاقة بإرادة من حديد، وعملت مدخل بيانات في شركة بونجور للصناعات الغذائية، قرابة 5 سنوات، ويوميًا أسعى لـ«لقمة عيشي» بدراجتي النارية ذات الأربع عجلات، لمقر الشركة، الخالي من المصعد، فأضطر لصعود الطابقين رغم إعاقتي ليحل عليّ التعب كما يحل الشتاء على بيت بلا سقف، ورغم كل هذا كان المقابل ضئيلًا جدًا مما دفعني لتركها».
إعاقة بلا تنمر
بنظرة تفاؤل وابتسامة أمل يتلمس أشرف خصيلات شعر طفلته الصغيرة «مكة»، وبأنامله الحساسة يُداعب ابنه «فارس» وبصوت تعتريه العزيمة: «حقيقة لم أعانِ من التنمر، فالتنمر وحده إعاقة، بل أشد، فهو مرض أقرب ما يوصف القتل العمد، قتل مشاعر الإنسانية دون شفقة أو رحمة، وقلب المتنمر ميت المشاعر، وتلك هي لغته الوحيدة، فالمعاق هو معاق القلب والمشاعر، أما أنا ومن مثلي فابتسامتنا وحدها تحدي للإعاقة.. لم أصادف أحدًا من غير المتأدبين، الفظّة ألسنتهم، والقاتلة نظارتهم، وهذا من لُطف ربي.. أحب الرياضة وأشجع النادي الأهلي الذي يجري في عروقي مجرى الدم، ما زلت أحلم بالانضمام لمنتخب مصر لألعاب القوى للإعاقات الحركية لتحقيق حلمي بميدالية في البطولات الدولية.. وأيضًا زوجتي «يسر عمر» رفيقة الدرب التي شأنها شأني، حققت عدد ميداليات في البطولات السالف ذكرها، كما أنها هي أيضًا تحلم بالانضمام لمنتخب مصر لتحقيق ذاتها».
للإعاقة دروس بالمجّان
وبنبرات تتغلغلها الفخر يواصل: «الإعاقة منحتني دروسًا بالمجّان، إذ إنها جعلت مني شخصًا أكثر قوة وصلابة، وغيرت مفهوم الحيارة فنظرت لها من زاوية مختلفة، فانضممت لنادي فرسان الإرادة بأوسيم، ومارست ألعاب القوى للإعاقات الحركية المتمثلة في لعبتي الجلة والقرص، وحصدت بفضل الله ميداليات ذهبية وفضية على مستوى الجمهورية أو بطولة كأس مصر لألعاب القوى للإعاقات الحركية، وأصبحت لاعبًا بمنتخب جامعة القاهرة لذوي الاحتياجات الخاصة، وحققت أيضًا عدد ميداليات على مستوى الجامعات».
«وتتوالى الصعوبات لتأتي المنح من بواطن المحن».. هكذا قال أشرف بعد تنهيدة انشقت من منتصف صدره لتنم عن معاناة سنوات ليتابع: بادرت بالبحث عن مصدر رزق آخر، وأرغب في وظيفة ولو بالتعاقد فلم يسبق لي أن أحصل على وظيفة من جهة حكومية أو قطاع خاص كبير.. أنا فقط أتمنى!
واختتم قاهر الإعاقة: «حلم حياتي أنا وزوجتي أن نكون يومًا ما من لاعبي منتخب مصر ونحقق ميداليات ترفع اسم مصر عاليًا. وأن يبارك الله لنا في طفلينا ليصبحا من المتفوقين علميًا ورياضيًا على حد السواء.. أسأل الله أن يحفظ مصر من كل سوء ومكروه، وأتمنى يكون هناك عين قوية من الإعلام المصري تسلّط الضوء على ذوي الاحتياجات الخاصة وبطولاتهم وإنجازاتهم سواء المحلية أو العالمية، آملًا في زيارة بيت الله الحرام وزوجتي وأولادي».
فلنكن أطباءً مهرة، نداوي جراح المكلومين، ونطبطب على قلوبهم إن لم نستطع مداواتها، ولو بكلمة، حاشانا أن نكون مرضى مصابين بمرضِ التنمر.. وحينها تتبادل الأدوار!
المجالس – هدى زيدان
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية