الإبداع الفكري والأدبي والفني من أسس تقدم المجتمعات وحداثتها وتحضرها، ومصر كانت دومًا على رأس الدول المدنية المؤمنة بحرية الفكر والإبداع، ومع ذلك لم تفقد بوصلتها الراسخة لقيم المجتمع السوية.
لا شك أن مصر قادت حركة التنوير في المنطقة العربية ومحيطها الأفريقي قبل أكثر من قرن، على يد نخبة من المبدعين في مجالات الفكر والثقافة والآداب والفنون، وهو ما جعلها دولة رائدة ومن أوائل دول العالم في الإنتاج السينمائي وسميت القاهرة بهوليود الشرق بعد أن أبدعت في هذا المجال.
وشكلت الدراما بشتى أنواعها وجدان الشعب المصري والشعوب العربية التي كانت تنتظر الأعمال الدرامية بشغف، وأتذكر أنني قبل أكثر من عشرين عامًا كنت في زيارة تونس الشقيقة ضمن وفد صحفي مرافق للمرحوم كمال الجنزوري رئيس الوزراء، وأثناء مرورى بشارع الحبيب بورقيبة أكبر شوارع العاصمة التونسية، فوجئت بتجمع بشرى كبير جدًا، وقوات أمن مكثفة، واعتقدت أنها مظاهرة سياسية، وسألت أحد الأشقاء التوانسة عن شارع بديل أسلكه، فابتسم وقال إنها مظاهرة في حب عادل وأن الإقبال على فيلم جديد له، وهى سمة كانت تنالها الأفلام والدراما المصرية بشكل عام في كل الدول العربية.
هذه الدراما التي أبدعها نخبة من الأدباء والفنانين والمخرجين هي التي شكلت جزءا هاما من قوة مصر الناعمة، وكانت سببًا في التقارب والتلاحم العربي، وجعلت من مصر قبلة للفنانين العرب باعتبار أن القاهرة كانت منارة الشرق، وهو أيضاً ما جعل من مصر الوطن الثاني لأبناء الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ولأسباب كثيرة ومتعددة تراجعت مصر في هذا المجال، وأصبحت هدفًا استراتيجيًا للغزو الثقافي الخارجي، وانتشرت ثقافات جديدة وغريبة على المجتمع المصري، وكانت سببًا في التشدد والغلو الديني الذي أنتج تطرفًا وإرهابا في فترة التسعينيات، دفعت مصر ثمنه غاليًا من خيرة شبابها وأيضاً من اقتصادها
كما كانت هناك هجمة ثقافية مقابلة من الغرب لنشر ثقافة الشذوذ والانحلال في المجتمع المصري، ومازالت مصر تدفع الثمن جراء التصدي للصراع الثقافي الذي يندرج بعضه تحت شعارات حقوق الإنسان، مثل قضايا الإعدام وغيرها من القضايا التي يلفظها المجتمع المصري، وسادت في السنوات الماضية، وباتت تشكل مظاهر سلبية يعاني منها المجتمع، وللأسف كان بعضها بسبب أعمال درامية سيئة وغزو ثقافي خارجي.
إن الجدل الذي صاحب فيلم – أصحاب ولا أعز – على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد إحدى وسائل قياس الرأي العام، والذي اعتبره الأغلبية خروجًا عن القيم والتقاليد والأخلاق المصرية، وقابله ردود من الوسط الفني باعتباره نوعًا من الإبداع والحرية، يشير إلى أننا فعلا في أزمة، خاصة وأن بيان نقابة المهن التمثيلية قد سطرت فقرة في بيانها لم تتسق مع الواقع عندما قالت إن النقابة تحرص على القيم الأصيلة للمجتمع المصري وأن دور الفنون معالجة القضايا الشائكة ودق ناقوس الخطر لظواهر يجب أن يتصدى لها فنانو ومبدعو مصر.
والحقيقة أن الفارق شاسع وكبير بين هذا الهدف السامي والواقع الذي نرى فيه طرح قضايا على أنها موجودة وطبيعية مما يرسخها في عقول البعض من محدودي الثقافة وتتحول إلى ظاهرة لإفساد المجتمع، وليس أدل على ذلك من مساهمة الأعمال الدرامية في إحدى صور البلطجة وانتشارها بين الشباب تأثرًا بممثل أدى هذه الأدوار وكانت نكبة على المجتمع والشباب.
إننا مع حرية الفكر والإبداع الذي يضيف للمجتمع ويساهم في بناء وزيادة الوعي وتحضر الأمة ونهضتها واستقرارها، وليس أدل على ذلك من أن مصر في حقبتها الليبرالية في النصف الأول من القرن الماضي كانت في ذروة تحضرها وإبداعها الفني والثقافي والأدبي وتنافس باريس ولندن في هذه المجالات ومع ذلك احتفظ الشعب المصري بقيمه الراسخة.
حمى الله مصر
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويترلمتابعة أهم الأخبار المحلية