بقلم – رفعت السعيد
ويتوجه ولى الدين بعد ذلك إلى معركة أكثر صعوبة، وهى الموقف من بعض رجال الدين المتشددين والذين اتخذوا مواقف متخلفة لا علاقة لها بصحيح الإسلام. فعندما تضطهد حكومة العراق الشيخ جميل الزهاوى وتسجنه لأنه طالب المرأة بخلع الحجاب قائلًا إنه لا علاقة له بتعاليم الدين الصحيحة، يكتب شبلى شميل مدافعًا عن الزهاوى مطالبًا الأحرار بالتحرك دفاعًا عنه، كتب ولى الدين خطابًا مفتوحًا إلى شميل جاء فيه «أيها العالم الجليل أستاذى الدكتور شبلى شميل.. أهبت بنا فأسمعت، قرأت فى المقطم ما سطرته أناملك الطيبة وأنا طريح الفراش، طريح الهموم فخلت السقف وقع على رأسى ونهضت واقفًا.. وها أنا أُسطر هذه السطور.. يا أيها المسلمون.. أنا مسلم مثلكم، يحزننى خسرانكم ويشركنى معكم مصرعكم، إن هؤلاء الرجال الذين أثقلت هاماتهم العمائم أكثرهم لا يعقلون، كان عبدالحميد يقتل الناس ويظلمهم وينفيهم وينهب الخزائن، وكل هذا حرام فى دينكم فما قام فى وجهه واحد منهم ناصحًا أو رادعًا، ولكنهم الآن وقد وسعتهم بلاد الحرية يكرهون أن يروا حرًا يتكلم، ويهاجمون من لا يكون من فريقهم، يملأون الدنيا صخبًا وضجيجًا، يكفرون الساعل والماخط والآكل والشارب، حتى لقد زهدونا فى الحياة، وهم أشد الناس تعلقًا بها، فلا تجعلوا لهم سلطانًا عليكم فيكسبوا من خسرانكم ويسعدوا بشقائكم وأنتم لا تعلمون» [التجاريب – صـ٢٣]. ويمضى ولى الدين يكن فى هجومه قائلًا «إن العامة تحب الشىء إذا حببه إليها زعماؤها وتبغضه إذا بغَّضه إليها زعماؤها، وزعماء العامة عندنا رجال الدين، وهؤلاء يحبون أن يظلوا متحكمين فى الرقاب، وأن يظلوا عالة على الأمة، وأن يلثم الناس أيديهم ويملأوا أكياسهم ذهبًا، ثم إن عبدالحميد قد اتخذ منهم شيعته ومسانديه فما أقر هيبته فى القلوب، ولا استجلب له المودة إلا هؤلاء» [المعلوم والمجهول – الجزء الثانى – صـ ١٥٩]. ويمضى مؤكدًا «أنهم يحلون ما يريدون هم أن يجعلوه حلالا، ومنهم من يقول إن الربا حرام بينما أوقاف الأستانة تقرض المال بالربا، فتهب الرجال قرضًا وتجعل الربح ثمن مصحف يشتريه من الأوقاف ثم يهبه إياها» [الصحائف السود – صـ٢٣] ثم يواصل هجومه المرير «لو جمعنا العمائم التى بالبلاد العثمانية وجعلنا بعضها فوق بعض لبنينا حصنًا يعجز أسطول إنكلترا عن هدمه» [التجاريب – صـ٣١]. ويمتلك ولى الدين يكن شجاعة يستمدها من عشقه للحرية فيصيح «يا حرية.. أنا عرفتك وهمت بك هياما، فأنا صاحبك من قبل ومن بعد ولا أخاف منذ اليوم رقيبا» [المعلوم والمجهول – الجزء الثانى – صـ٤]. ويقول «الحرية طافت بلاد فكلما دخلت أرضًا أعتقت المعتقلين فيها حتى أتت إلى تركيا فاعتقلوها» [المعلوم والمجهول – الجزء الأول – صـ٦٣]. ثم يقول «بالأمس كنا ننادى يا حرية.. يا حرية، يا حبيبة الشعوب وعدوه المستبدين ومرتع الآمال ومسرح النفوس وشفاء الصدور وحياة الممالك، فلما استجابت لندائنا وأقبلت إلينا تجاذبنا ضفائرها وتنازعنا حليها وأتينا بالقيود التى فكتها عن سواعدنا ووضعناها فى سواعدها وقيدناها بها» [الصحائف السود – صـ٨٧].. ويواصل ولى الدين كتاباته دفاعًا عن الأحرار فى كل مكان فيكتب بعنوان «مقتل فرر»، «وفرر» هذا مناضل إسبانى دافع عن حقوق شعبه فحكموا عليه بالإعدام. ويقول «هن ثلاث رصاصات رميت بإسبانيا فجاوبت صداها بلاد الله فى أوروبا وآسيا وأمريكا. ثلاث رصاصات رمتها حكومة متمدينة بمشهد من حكومات متمدينة فقتلت رجلًا متمدينًا، حرًا أشقته حريته، عارفًا أجهدته معرفته ومنصفًا أرداه إنصافه. إن «فرر» آثر حب النوع على حب الجنس فكان أكثر الناس أحبة وأكثرهم نعاه. لقد رفض «فرر» زعامة الفرد على الجمع، وكره أن يرى أناسًا يرفلون فى ثيابهم المخملية ويجرجرون أسيافهم، وتخفق على رؤوسهم خرق فوق قضبان يسمونها أعلامًا، وأن تكثر الحكومات من جمع هؤلاء فى أزيائهم المضحكة لتستخدمهم فى قتل أمثالهم. «كره» فرر أن يرى إخوته من أبناء آدم يتنازعون أكنافًا من الأرض ليست لهم ولا لغيرهم وإنما هى لكل الناس، فما يحزن على فرر سكان القصور العالية ولا أصحاب الذهب والفضة ولا أغنياء القوم ولا الوزراء ولا كبار الموظفين وإنما يحزن عليه المنفيون فى أقاصى سيبيريا مكبلين بالحديد، والمسجونون فى ظلمات السجون فى سائر أقطار الأرض.. ويبكى عليه كل من ذاقوا مرارة الظلم والاستبداد فى أسر المستبدين فى أى مكان بالأرض، الأرمنى الذى قتل أقاربه فى مذابح الأناضول، والتركى الذى ألقى الطغاة أقاربه إلى أمواج البوسفور، والعامل فى أعماق المناجم محرومًا من نور الشمس ونسيم الهواء، والفقير الذى يحس بالجوع ولا يتجاسر على الشكوى. كل هؤلاء يبكون على «فرر» وكان «فرر» يبكى عليهم.
.. والمثير للدهشة أن ولى الدين يكن لم يهتم بأن يقول لنا من هو فرر، ولا لأى ذنب حوكم بالإعدام لكنه أتانا بصورة مجردة.. عن مناضل يتبدى وكأنه وهمى وشجاع ومخلص ومتعاطف مع الفقراء ورافض للظلم ومدافع عن إنسانية الإنسان، واكتفى بذلك.
ونواصل مع المشاكس ولى الدين يكن.