بدأت الحرب في 5 يونيو 1967 صباحا وتقريبا انتهت في مساء نفس اليوم بعد أن دمر الطيران الإسرائيلي مطاراتنا في سيناء قبل إقلاع أي من طائراتنا، وصدرت الأوامر بالانسحاب غير المنظم من سيناء وحاول الرجال عرقلة تقدم القوات الإسرائيلية بجيوب من المقاومة ولكن للأسف بلا غطاء فاجتاحت قطاع غزة وسيناء في أيام بل قل في ساعات.
ولم يكن ملاذ للجنود والضباط إلا بعض المنازل في العريش للتحصن أا الاختباء فيها فحضر إلى بيتنا زملاء أخوتي في القوات المسلحة ومكثوا لحين استخراج بطاقات بمهن مختلفة وتدبير ملابس مدنية ثم وضع خطة سفر آمنة عبر الدروب للعودة إلى غرب القناة.
وفي مساء الأربعاء 7 يونيو لجأ خمسة من الجنود والضباط إلى منزل عمي الحاج علي وأحدهم كان صديق ابنه عبد الجليل الذي كان متطوعا في الجيش هو وأخيه عبد الكريم والثالث حسن مجندا والذي أصبح فيما بعد من أبرز شيوخ سيناء والرابع أحمد ذلك الشاب الفتي الوسيم ذو العشرين ربيعا والذي تطوع في صفوف الحرس الوطني ولم يعد لاحيا ولاميتا وقد كان والده الشيبة يجوب العريش جيئة وذهابا تحت النار يبحث عنه ولم يجده.
ومع كل رواية تبعث فيه الأمل يشق طريقه مخاطرا بحياته يحذوه الأمل أن يجده حتى لو بين الضحايا فلا يجد غير خزنات الرصاص المنثورة في الطرقات فيلتقط بعضها ويضعها في «خرج» بضم الخاء.. حماره ويعود ليعطيها للجنود المقيمين في بيته لعلها تنفعهم وهم في طريق العودة حيث كانوا يتأهبون للخروج في اليوم التالي ولكن في جنح الليل.
ولكن القدر أراد أمر آخر.. ففي هذا المنزل الذي يقع على بعد خطوات من شارع 23 يوليو وهو الشارع الرئيسي بمدينة العريش وكان وقتها الوحيد وليس بعيدا عن بيتنا ربما مائتي متر فقط.. وصلت قوات المشاه الإسرائيلية إلى العريش والميكرفونات تجوب الشوارع بالدوريات المسلحة وتلقي البيانات باللغة العربية والطائرات تلقي المنشورات محذرة من إيواء الجنود والمسلحين ومتوعدة بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقتحمون البيوت ويخرجون الرجال منها ويتم تقيد أيديهم إلى الخلف ورصهم ووجوههم إلى الحائط لفرزهم ومعرفة من المجند من المدني بفحص الملابس الداخلية.
هذا إذا كان القائد عاقلا أما إذا كان متهورا فيرشقهم جميعا بالرصاص ويذهب إلى الشارع التالي.. ولما لم يخرج أحد من بيت عمي لأن الشباب جميعهم في الجبهة… فقد دخلت قوة راجلة إلى المنزل والذي يطل على الشارع بطرقة أو ممر على يمينك المندرة وعلى يسارك شقة صغيرة كانت تستأجرها أسرة من دمياط وفي الواجهة أكثر من 6 غرف بحرية واثنان على اليمين ومثلهم على اليسار وباحة الدار بها بعض أشجار الزيتون والليمون وما إن دخل قائد المجموعة وظهر للرجال القابعين في الغرف الطينية على يسار ويمين المنزل بأسلحتهم رشقوه فعاد بدمه للخلف ليسقط في الممر واندفعت القوة للداخل لتدور رحى حرب يسقط فيها ستة عشر جنديا وضابطا إسرائيليا وقائدهم الميجور «جوك» ضابط كبير.
وخرج المتحصنين الخمسة بعد أن استبدلوا ملابسهم العسكرية بملابس مدنية وكان أحدهم مصاب وتم اسعافه بطريقة بدائية حيث استخرجت رصاصة من كتفه وكي موضعها بدون تخدير طبعا.. تلك الجراحة التي أجراها الرجل العجوز عمي الحاج علي في بيت أخيه المجاور على عجل حيث غادر الرجال فور انتهاء الملحمة.. وحضرت قوة كبيرة تسحب جثث الضحايا ولم يجدوا في البيت إلا عمي الحاج علي ذو الأربع وسبعين عاما وزوجته وبناته فاعتقلوه وقاموا بوضع المتفجرات في كافة أنحاء المنزل وهو من الطوب النئ الطيني ولكن بحوائط سميكة وطلبوا من كل من في الداخل مغادرة المنزل في خمس دقائق بمكبر الصوت وهرعوا إلى الشارع كيوم القيامة لدرجة أن السيدة الدمياطية نست ولدها «سيد» نائما وعندما أرادت أن تعود لتلتقطه منعوها لأن المفجر باقي له ثواني.. وانفجر المنزل بما فيه ومن فيه فتناثرت محتوياته في الشوارع المجاورة واستشهد الطفل النائم.
وسمعنا دوي الانفجار الذي هز بيتنا وخرجت أمي لتستطلع الأمر وعرفت قبل أن تصل إلى أول الشارع أنه قد تم نسف بيت عمي وبدأ القلق يدب في أرجاء المنزل حيث الرجال المختبئون في أحد غرف منزلنا وكان لابد من سرعة تدبير الأمر ليغادروا، ولكن في وضح النهار حتى لايتم استهدافهم… واعتقل الشيخ الكبير لعدة أيام ولكنهم أفرجوا عنه بعد الحرب حيث برر وجود الرجال في بيته بأنهم مسلحين واقتحموا البيت وهو رجل كبير ومعه نساء وأنه لايعرفهم وبالطبع لم تكن هذه هي الحقيقة لأنهم زملاء أبنائه وإلا لماذا لجأوا إليه.
المهم أن الرجال وصلوا إلى غرب القناة بسلامة الله وأرسلوا للرجل العجوز..عمي الحاج علي ذو العمة البيضاء والعيون الزرقاء والبشرة التي تميل إلى الحمرة رسالة طمأنة بعد شهور… وهو ابن عم والدي وأحب الرجال إليه فقد كان قبل الحرب يقف بشيبته وينزل من على ظهر حماره ليحتضنني ويقبلني فانا أصغر ماتبقى من ريحة حبيبه وصديقه وابن عمه ويضعني فوق الحمار لدقائق وأنا في منتهى السعادة كأنني قد ذهبت إلى ملاهي دريم لاند.
وبعد انتهاء الحرب بدأ يأتي إلى مكان البيت المدمر الذي أصبح أثرا بعد عين أسر القتلي الإسرائليين يقيمون مناحة وبانتظام على مدار أسابيع ثم تباعد الأمر وأصبح في الأعياد وتحت حراسة مشددة لسنوات ثم منعوهم ربما لأسباب أمنية بعد ذلك.
ولم يسلم الأمر فقد كان الجيش الإسرائيلي يأتي لاعتقال الرجل العجوز ثم يطلق سراحه بعد عدة أيام وظل هكذا إلى أن لاقى ربه وهو مكلوما صابرا برغم أنه اطمأن على أولاده أنهم انسحبوا غرب القناه ولكن أحمد فلذة كبده الصغير الوسيم الفتي الذي كان أقوى شباب جيله وتحكي عنه حكايات لم يعد.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأ خبار المحلية