كنا أطفالا صغارا نحلم بغد أفضل ونحلم بالنصر فقد علت أصوات ميكرفونات هيئة الاستعلامات التي كان مقرها بعمارة أبو راضي في شارع 23 يوليو وعلى بعد خطوات من بيتنا نسمع الأغاني الوطنية التي كتبها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل تلك الأغاني الثورية الحماسية «ابنك يقولك يابطل هاتلي انتصار» صورة كلنا كدة عايزين صورة تحت الراية المنصورة.. ويا ابو خالد يا حبيب الخطوة الجاية في تل ابيب.
لم يكن لدينا ذرة شك في النصر.. فها هي الحوائط في مدينة العريش قد امتلأت بالشعارات.. «إسرائيل ولدت لتموت» «سنلقي إسرائيل في البحر» «الموت للأعداء» وبعقولنا الصغيرة الساذجة كنا نجتمع «صحبة الشارع والجيران» في حلقة دائرية في ركن من بيتنا الكبير على رملة الأرض التي قامت الحاجة وهيبة «ياسمين» بغربلتها لتنظفها من الشوائب والبقايا فقد كان هذا دأبها يوميا.
نجلس لنردد الشعارات بصوت عالي ظنا منا أن إسرائيل تسمعنا فنحن جيران وهم ليسوا بالبعيد من هنا.. هكذا يصور لنا خيالنا الصغير المغلق.. وارتفعت وتيرة الطبول.. ليست فقط طبول الحرب لكن أيضا طبول الإذاعة فها هو أحمد سعيد ذو الصوت الجهوري يعلو صوته ويبشر بالنصر المبين قبل أن تبدأ الحرب .
وكذلك محمد حسنين هيكل يلمح ويصرح في مقال الجمعة بالأهرام الذي يقرأه جلال معوض بعد نشرة المساء في التاسعة إلا ربع في الإذاعة أن النصر قادم لا محالة.
نعم كنا أطفالا ولكن أكاد أشك إلى درجة اليقين أن وعينا بما يحدث يفوق الرجال الذين ليسوا في بؤرة الحدث مثلنا فلا اعتقد أن من يعيش في القاهرة أو في الإسكندرية أو الصعيد كان يعيش اللحظة كما كنا نعيشها نحن على خط المواجهة.. نرى حشود قواتنا ونستقبل طلائع الجيش العراقي والكويتي على محطة قطار العريش والمدارس التي أصبحت مخازن للمواد الغذائية للقوات المتمركزة حول المدينة.
نعم كان صوت الطبول يعلوا.. ولكن عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضل الشجر وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر.. هكذا وصف نكسة 1967 قلم الخال عبد الرحمن الأبنودي.. وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها جاها نهار مقدرش يدفع مهرها.. وخفتت أصوات الطبول والمدافع وضاع كل شيء.. هزيمة ساحقة في يوم وليلة.
تذكرت كل هذا وأنا اقرأ أحد كتب عمنا الساخر الكبير محمود السعدني الذي كان يمتلك حس وطني وظف بل سخر قلمه له فصدق.. ففي سخريته حكمة وفي ضحكته قصة.. ولست أذكر النص ولكن معناه.. «انني تعلمت أنه كلما علا صوت الطبول أيقنت أن هناك انحدارا يوشك أن يحدث وإذا ارتفعت أصوات الأغاني توقعت أن هناك مصيبة توشك أن تحدق بنا».
لا أعرف يقينا إذا كان عمنا السعدني قد كتب هذا قي عهد عبد الناصر أم في عهد السادات علما أنه لم يكن مهضوما في كليهما لشدة صراحته.. رحمة الله على الجميع.
وكبرنا ومرت الهزيمة وانتظرنا طويلا نسمع أخبار جبهة القتال طوال سنوات حرب الاستنزاف إلى أن فقدنا الأمل في عودة العريش إلى السيادة المصرية وأننا لن نرى أخوتنا وأحبتنا الذين هاجروا وفارقونا أثناء الحرب وخاب أملنا عندما قبل عبد الناصر مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار.
وطبعا لم نكن نعرف أنه يأخذ استراحة محارب ليعيد حساباته ليبدأ خطة الهجوم التي كان مخططا لها في 1972.. ولكن شاءت إرادة الله أن يغارقنا ونعود لنتذوق حلاوة النصر 1973 مع الرئيس السادات ووقتها غنينا للفرح.. للنصر.. للحياة.. ورقصنا على أنغام المدافع لا على دقات الطبول ومسحنا بكاء الهزيمة بدموع الفرح.. وهكذا تقليب الذكريات مثل زيارة القبور.. حزينة.. ولكن دائما يرقد تحت ثراها عزيز أحببناه.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا