بقلم – حسن شكري:
مرت التجربة الماركسية بمرحلة خرجت منها بدرسين أساسيين. أما الأول فهو أن التخطيط عن طريق التوجيهات أو الأوامر الإدارية يميل لمفاقمة المشاكل الاقتصادية.
وأما الثانى فهو رفض صيغة أن السوق رأسمالية والخطة اجتماعية ومن ثم رفض القول بأن السوق قوة عفوية فوضوية ينبغى أن تكبت بالخطة، وانتهى بذلك عهد من الجمود الاقتصادى اتسم بالتقليل من شأن السوق.
من هنا برزت الآن فكرة الجمع بين التخطيط والسوق. أو ما يسمى بالسوق المخططة أو ما يمكن أن نسميه بالسوق الاجتماعية التى يتم التأثير عليها من خلال الخطة أو التخطيط التأشيرى أو توجيهى غير آمر. أى أنه تخطيط اختيارى أو جزئى.
وهذا النهج اتبعته بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا عندما واجهت المشاكل الاقتصادية العنيفة نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية التى انفجرت فى الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨ وامتد تأثيرها المدمر إلى كل دول العالم، وما زالت مستمرة حتى اللحظة.
ثم دار الزمن دورته. وفيما بين القرن العشرين ومنتصفه تحولت النظرية الاقتصادية الرأسمالية من القول باستحالة التخطيط كأسلوب للحساب الاقتصادى إذا ما ألغى الأساس المادى للمنافسة وهو الملكية الخاصة إلى القول بتبنى أسلوب التخطيط أو على الأقل استخدام عناصر من نظام التخطيط ليس فقط على مستوى المشروع وإنما على مستوى الاقتصاد القومى أيضا.
والواقع أن سيطرة الاحتكارات الكبرى من قومية ومتعددة القوميات هى دلالة واضحة على التخلى عن آليات السوق التلقائية وإحلال النشاط المخطط لتنمية الإنتاج والتبادل محلها. فالاقتصاد الرأسمالى يتحول إلى اقتصاد المشروع المخطط، لأن النطاق الحديث للإنتاج يستلزم التخطيط فى إطار المشروع الواحد. ولكن ازدياد الطابع الاجتماعى للإنتاج فى ظل الاحتكارات يجعل من الضرورى أن يكون التخطيط على نطاق قومى أيضا.
ومع نمو الطابع الدولى لعناصر الإنتاج وبخاصة رأس المال، ومع التدويل المضطرد للحياة الاقتصادية فى كل بلد، تتطلب الصناعة الآلية الكبيرة تنظيمًا أدق وأرقى للإنتاج. إن استمرار الإنتاج الرأسمالى فى التركيز مع نمو رأسمالية الدولة الاحتكارية صارا يحتمان الأخذ ببعض عناصر التخطيط على المستوى القومى.
ولقد بدأت المحاولة فى الحرب العالمية الأولى عندما أخذت الدول المتحاربة بما سمى اقتصاد الحرب. وجاءت الحرب العالمية الثانية فجعلت من اقتصاد الحرب نظامًا شاملًا لإدارة الاقتصاد القومى. فلقد كانت الحرب تتطلب التعبئة الشاملة لكل الموارد الاقتصادية، وبذلك أصبح من الضرورى تخطيط أساسى من الإنتاج فالموارد محدودة ولا يمكن الركون إلى عمل الآليات التقليدية للسوق، وإلا كان من المستحيل مواصلة الحرب، ولقد أدخل نظام التقنين فى توزيع الصلب والمواد الخام، وتوقفت صناعات مدنية كالسيارات وصناعات استهلاكية كمالية كذلك. وجرى توزيع قوة العمل فيما بين القوات المسلحة والاقتصاد القومى، ووضعت حدود لحركة الأسعار، بل حدث تقنين للغذاء وللملابس، وباختصار قامت الدولة بتوجيه الاقتصاد القومى، وعلى الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن نظام اقتصاد الحرب ظل ساريًا كله أو بعضه فى العديد من البلدان الرأسمالية وبخاصة فى الولايات المتحدة.
وإذا كان اقتصاد الحرب قد جعل الدولة تسير فور عمليات إدارة وتوجيه الاقتصاد الرأسمالى على المستوى القومى، فإن الأزمات الطاحنة التى تعرض لها الاقتصاد الرأسمالى منذ الثلاثينيات من القرن العشرين قد أضعفت الإيمان المطلق بمبدأ المشروع الحر لاقتصاد السوق. وكشف كينز من معالم رأسمالية الدولة الاحتكارية فى التطبيق. وجرت الدعوة لوضع وتطبيق سياسة اقتصادية ترمى لإيجاد أكفأ الطرق لتحقيق المصلحة الجماعية للرأسمالية. وهنا فلقد كان التخطيط بواسطة المشروعات أسبق من التخطيط بواسطة الدولة ومع تركز الإنتاج، وانفجار تناقضات آليات السوق، كانت محاولة التخطيط لحل هذه التناقضات. فهو محاولة للتوصل إلى حل وسط بين استمرار الإنتاج الذى يستفحل طابعه الاجتماعى وبين الحفاظ على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الأساسية، وذلك كان تعبيرا عن واقع الرأسمالية المعاصرة : تعبيرا عن المستوى العالى للنمو الذى بلغته القوى الإنتاجية وطابعها الاجتماعى المتزايد والائتلاف المتعدد الجوانب بين الدولة والاحتكارات.
واليوم أصبح يوجد قطاع للدولة فى كل البلدان الرأسمالية. ومثل هذا القطاع العام يمثل ما لا يقل عن ٢٠٪ من الاقتصاد القومى للولايات المتحدة نفسها. غير أنه لا يكفى أن تتدخل الدولة حيث فشل القطاع الخاص، بل تتدخل الدولة بدور إيجابى من جانبها باعتبارها مصدرًا للمبادرة لإعادة توزيع الدخل القومى أو لتغيير نمط الاستهلاك الفردى.
واليوم لا توجد دولة رأسمالية لا تأخذ بقدر أو آخر من نظام التخطيط فى محاولة لترشيد عمل آليات السوق الرأسمالية المعاصرة، حتى لقد قال كاتب مثل شونفليد عن اقتصاد الولايات المتحدة إنه «ليس اقتصادًا غير مخطط»، ومن المسلم به أن هناك خطة قومية تتكفل بها الدولة فى فرنسا فما حقيقة هذا التخطيط الرأسمالى ؟.
الرأسمالية المعاصرة هى رأسمالية الاحتكارات الكبرى المرتبطة بالدولة، وبغض النظر عن أحكام القيمة التى يمكن أن تطلق عليها من جانب أو آخر، فهى رأسمالية منظمة، ولذلك يعترض ميد على فكرة روبرتسون عن الرأسمالية المعاصرة. فروبرتسون استمر يرى أن من طبيعة نظام المنافسة أن يكون مختلفا، الأفراد أحرار فى تكوين آرائهم حول احتمالات النتائج المختلفة. فكل فرد حر فى تشكيل تقييمه الذاتى، وأن يكون من الأجدى تنظيم تبادل للآراء فيما بين الأفراد، ومن هنا، فإن النقطة الأساسية فى النمط المثالى للتخطيط فى ظروف عدم اليقين هى أنه يجب أن تترك حرية منافسة كاملة للعوامل الاقتصادية المختلفة كيفما تتصرف طبقًا لتقديراتها الخاصة عن التغيرات المقبلة. لكن، وفى الوقت نفسه فإنه يجب أن يتم التدخل لإزالة الجوانب الثانوية لعدم اليقين الذى تنطوى عليه النظرية الاقتصادية الرأسمالية.
وعلى العكس، حاول «ميد» أن يدرس واقع الاقتصاد الرأسمالى المعاصر، وليس حالة المنافسة الكاملة. فهو اقتصاد الاحتكار، بل واحتكار الأقلية، ومن ثم تبدو محاولة التخطيط محكومة بأوضاع رأسمالية الدولة الاحتكارية المعاصرة وهى:
أ- نمو قطاع عام كبير، مما يفترض إدارة الدولة لجزء هام من عملية الإنتاج الاجتماعى. لكنه قطاع لا يسير على الاقتصاد القومى، الذى يظل محكومًا بآليات السوق. ومن ثم فإن السوق تخضع قطاع الدولة لأهداف رأس المال.
ب- الحاجة إلى استثمارات ضخمة لتشجيع التقدم التكنولوجى مما يفترض تركيزًا رأسماليًا عاليًا وتنسيقًا لبرامج البحث. ومن هنا تضطلع الدولة بهذه المهمة لصالح تطوير الإنتاج، بالإضافة إلى توسعها فيما بعد من الخدمات والمرافق والهياكل الاساسية.
جـ- نشأة المجمعات الصناعية العسكرية، وتشجيع سباق التسلح وصناعات السلاح على أساس استثمارات الدولة وعقود الدولة للشراء والتوريد، مما يتطلب تنسيقًا بين قطاعات الصناعة والقوات المسلحة والدولة.
وإزاء المثل الذى تضربه تجربة التخطيط غير الرأسمالى، فإن السعى لتحقيق معدلات نمو عالية ومستقرة يحفز الدولة الرأسمالية إلى التدخل فى الاقتصاد القومى عن طريق أساليب التخطيط، إنها تضع عندئذ برامج لتخطيط بعض الأنشطة الاقتصادية من خلال التعاون المشترك بين الدولة والمشروعات. وتتناول هذه البرامج ما يلى:
أ- برامج استثمار تتولاها الدولة. وتستطيع بالتالى أن تتحكم فيها، ويعتبر تخطيط هذه الاستثمارات العامة أساس محاولات البرمجة الرأسمالية، فإن التخطيط للاستثمار لا يلبث أن يؤدى إلى توسيع مجالات التخطيط.
ب- برامج تنسيق للاستثمارات الخاصة، إذ تتصدى الدولة لمحاولة التنسيق بين برامج الاستثمار التى وضعتها المشروعات الخاصة. وذلك عن طريق اقتراح أهداف ذات أولوية معينة على المستوى القومى. وإذ يعتبر مثل هذا التنسيق محاولة لسير أوضاع السوق للمدى الطويل فإنه يعد فى الواقع عملًا مفيدًا للمنظمين الرأسماليين، يأخذون به أو لا يأخذون.
جـ- برامج للمعلومات للتنبؤ بالظروف المقبلة للسوق للحد من درجة عدم اليقين التى تتميز بها السوق الرأسمالية. وتمثل هذه البرامج محاولة من جانب صناع القرار لتبادل المعلومات حول توقعاتهم عن ظروف السوق باعتبار أن الدولة نفسها واحد من صناع القرار، ومن ثم تتولى الدولة تنظيم التنبؤات الاقتصادية وأوضاع السوق الآجلة بهدف تحسين كفاءة آليات السوق.
هنا إذن شكل متطور من أشكال تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية. الغرض منه تحقيق الاستخدام الكفء للموارد الاقتصادية وعدم تعريض المنظمين للمخاطر التى يمكن توقعها، مع الاحتفاظ فى نفس الوقت لكل صانع قرار على حدة بحريته فى صنع قراره. هى محاولة لتوفير المناخ للوصول إلى أقصى ربح ممكن بأقل تكلفة ممكنة من وجهة نظر المشروع الخاص. محاولة للتوصل إلى الاختيار الرشيد على مستوى المشروع. لكنها تتوقف فى النهاية على موافقة المشروع. وعندئذ تعتبر محاولة جزئية لعلاج ما تعجز عنه آليات نظام السوق وجهاز الأسعار.
وفى هذه الحالة، فإن التدخل يأتى لاحقًا للعملية الإنتاجية وليس سابقًا لها. ومعروف أن التوازن فى السوق هو توازن يتحقق فيما بعد أى أنه توازن لاحق أو مؤخر، بينما التوازن فى الخطة توازن يتحقق من قبل، أى أنه توازن سابق أو مسبق.