فى ضوء حاجتنا الشديدة لاستلهام التجارب الناجحة من تاريخنا الوطنى وتوظيفها فى إطارها الصحيح للتغلب على العديد من المشكلات التى تواجه المجتمع خلال الفترة الحالية، يبرز لدينا على الفور نموذج انتصارات أكتوبر المجيدة تخطيطًا وتحضيرًا وتنفيذًا ومتابعة، فقد كان على القيادة العامة للقوات المسلحة أن تفحص عدة مشاكل وأن تعالجها الواحدة بعد الأخرى حتى تحقق للمقاتل المصرى أفضل الظروف لإظهار كفاءته وقدراته الكامنة. إذ كان عليه أن يعبر القناة فى وجه سد من اللهب والنيران، وأن يصل سليمًا هو وسلاحه إلى الضفة الشرقية، ويتسلق الساتر الترابى العالى، ويقتحم بما فى يده من أسلحة خفيفة خط التحصينات، ويدمر قلاعه القوية ويصد ضربات العدو المدرعة وقصفات طيرانه ثم يرفع علم مصر خفاقًا فوق أعلى الروابى والقمم.
ثم كان عليه بعد ذلك أن يتابع تقدمه ويواجه دبابات العدو ويقاتلها ويقضى عليها.. كل ذلك تحت ظروف صعبة ولعدة ساعات حرجة تناهز الست ساعات.. لقد كان على الجندى المصرى المترجل أن يقاتل بمفرده إلى أن تقام المعابر وتصل الدبابات والأسلحة الثقيلة الأخرى إلى الضفة الشرقية، وكان ذلك ضربًا من الإعجاز البشرى.. ليس له مثيل فى سجل الحرب.
المشكلة الأولى: هى أن يجد الوسيلة لإخماد النار فوق سطح الماء، أو يمنع اشتعالها أصلًا، ولتحقيق ذلك تقرر دفع بعض الأفراد لإغلاق مواسير النابالم بالأسمنت، وعبور مجموعات من الصاعقة للاستيلاء بسرعة على مستودعات المواد الملتهبة، كما تم انتخاب قطاعات العبور بحيث تجتاز قواتنا صفحة القناة فوق التيار، لتتفادى النيران المشتعلة فوق الماء.
المشكلة الثانية: كانت فتح الممرات فى الساتر الترابى على الضفة الشرقية حتى يمكن إقامة المعديات وتركيب الكبارى لعبور الدبابات والأسلحة الثقيلة، وأجرى ما يزيد على (300) تجربة ومحاولة مضنية على امتداد عدة سنوات تمت فيها اختبارات كثيرة لفتح هذه الممرات التى لا غنى عنها لنجاح العبور- بالمدفعية وبكل أنواع المفرقعات والصواريخ والألغام وقنابل الطائرات ذات الأوزان الثقيلة- التى فشلت جميعًا فى أن تحقق شيئًا من المطلوب.
إلى أن اهتدى أحد الضباط لفكرة استخدام مدافع المياه، وفى التو واللحظة قابلت الفكرة التشجيع اللائق بها، ودرست من جميع الزوايا والتفاصيل، وتقرر استخدام طريقة التجريف بالمياه تحت ضغط كبير بالاعتماد على مضخات المياه القوية، والتى أطلق عليها اسم «مدافع المياه»، بعد تعديلها بواسطة المهندسين المصريين، وكان الأمر يتطلب فتح (85) ممرًا فى الساتر الترابى يحتاج كل منها إزالة (1500) متر مكعب من الرمال والأتربة.
المشكلة الثالثة: كان تأمين اقتحام المجموعات الأولى من القوات ضد نيران العدو المصوب برشاشاته ومدفعياته ودباباته، والتى كان قد ضبط مراميها لتغطى سطح القناة وتحيله إلى سد من النيران المتشابكة.. ولهذا الغرض خططت أعمال المدفعية وأسلحة الرمى الأخرى لتنفيذ أقوى تمهيد نيرانى شهده الشرق الأوسط على امتداد تاريخه الحافل بالمعارك.
المشكلة الرابعة: كانت ارتقاء الساتر الترابى الذى فاق ارتفاعه العشرين مترًا، والأفراد يحملون كامل أسلحتهم وذخائرهم ومعداتهم، وقد ابتكر الكثير من الأدوات والأجهزة لتسهل صعود هذا الساتر حاد الزاوية.. كما كان لتصميم المقاتلين وعزيمتهم وإصرارهم الفضل فى نجاح الجميع فى ارتقاء الساتر.
المشكلة الخامسة: كانت تتلخص فى توفير القدرة للقوات المترجلة على القتال ضد دبابات العدو وعرباته المدرعة، التى سيدفعها لشن الهجمات المضادة بعد الدقائق الأولى لاقتحام قواتنا القناة، ولهذا الغرض تم تخطيط عدة إجراءات أهمها:
1- أن يحمل جنود الموجات الأولى أكبر قدر من الأسلحة والذخيرة وأقل قدر من التعيينات والمياه.
– أن تبتكر وتصنع عربات صغيرة لنقل ما لا يستطيع الجنود حمله، على أن تجر بالأيدى ليتسلقوا بها الساتر الترابى.
– أن تزاد نسبة تسليح الجنود بالأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات، مع زيادة نسبة الصواريخ الخفيفة المضادة للدبابات، وأن تجهز خطط النيران لمدفعية الميدان للمعاونة من الضفة الغربية.
– أن تدرب الأطقم على فك المدافع وحملها بالأيدى حتى إتمام صعود الساتر الترابى، ثم يعاد تركيبها بسرعة لتستخدم فى تدمير دبابات العدو المقتربة، بالإضافة إلى العديد من المشكلات الأخرى التى تم التغلب عليها بتطبيق العديد من الأفكار والتكتيكات غير النمطية والمبتكرة والتى شكلت عنصر المفاجأة للعدو.
لقد كشفت انتصارات أكتوبر عن مجموعة متماسكة من القيم، أبرزها:
1- أهمية التخطيط العلمى المتقن الذى يضع فى اعتباره كل الاحتمالات.
2- أثر الجدية فى السلوك فى تحقيق معدلات عالية من الإنجاز.
3- القدرة الخارقة للمواطن المصرى على التكيف مع أعقد المبتكرات التكنولوجية.
4- الجسارة فى مواجهة المجهول وفى تحمل المخاطر.
5- الجماعية فى التخطيط وفى التنفيذ، وسيادة روح الفريق التى كانت وراء كل الانتصارات.
إن هذه القيم جميعًا لو استُخلصت من الميدان العسكرى لكى تُطبق وتُدعم فى الميدان المدنى، حيث تنتظرنا أعمال جسيمة فى التعمير والتنمية وفى إحداث النهضة الحضارية بكل معانيها، فإن ذلك كفيل بأن يجعلنا نقفز مراحل تاريخية كاملة للوصول إلى كل ما يجعلنا فى مصاف الدول المتقدمة.