القائد القويّ هو ما يستهوى رجب طيّب أردوغان. إنّه مثاله وبطله. الاستفتاء الأخير الذى أجراه كان له غرض أوحد: أن يسبغ الشرعيّة على قوّته الفائضة. على تحوّله زعيمًا لا ضوابط داخليّة أوخارجيّة، على قوّته. أهداف هذه القوّة كانت ظهرت قبل الاستفتاء: تدجين الصحافة والقضاء والجامعة، وإسكات النقد الغربيّ لقمعه حقوق الإنسان، والتلويح باسترجاع حكم الموت. أيضًا، قبل الاستفتاء، أطيح تباعًا عبدالله غل وداوود أوغلو. فى «حزب العدالة والتنمية» ودولته رقم واحد فحسب يتربّع فوق جماهير يراد تحويلها أصفارا.
من يقدم على أفعال كهذه حاكم قويّ. السياسيّ البرلمانيّ ليس كذلك: إنّه يرعى حرّيّات الصحافة والقضاء والجامعة، ويحرص على فصل السلطات، ويرفض حكم الموت، ويهمّه توطيد العلاقة بالدول الديموقراطيّة حيث المصالح التجاريّة وحيث النموذج الأحسن للتقليد. السياسيّ البرلمانيّ يُضعف قوّته ويقيّدها بمحض إرادته. إنّه بلا «كرامة». مفهوم «الكرامة» عند الزعيم القويّ يقوم على التصادم مع تلك القيود وكسرها. مفهوم الكرامة عند السياسيّ البرلمانيّ يقوم على التوافق معها والتنازل لها.
السياسيّون البرلمانيّون فى المنطقة ليسوا النماذج التى يقلّدها أردوغان. من هم هؤلاء؟ «عملاء» كنورى السعيد، و«فاسدون» كمصطفى النحّاس، و«انفصاليّون» كخالد العظم، و«انعزاليّون» ككميل شمعون… أمّا فى تركيّا نفسها، فما من شيء مُغرٍ فى عاديّة بولند أجاويد أو سليمان ديميريل. حتّى تورغوت أوزال يبقى سياسيًّا تقنيّ التكوين. المطلوب زعيم يطلع من القضاء والقدر.
همّ أردوغان ليس تمثيل المؤسّسات والتعبير عن الإرادة الشعبيّة. همّه تمثيل التاريخ. الشعب. الأمّة. المصير… هذه مقدّسات ينبغى أصلًا عدم تقييدها، لأنّ المقدّسات مطلقة ولا تُقيّد. الزعيم وحده يعرف كيف يُنطقها وكيف ينطق بلسانها.
أبطال أردوغان، ولو خالفهم فى مسائل أيديولوجيّة أو سياسيّة، هم من عيار مصطفى كمال أتاتورك، نقيضه الشبيه، أو جمال عبد الناصر أو آية الله الخمينيّ، وفى أسوأ الأحوال من صنف فلاديمير بوتين. عظماء لا يحضرون فى السياسة إلاّ كى ينحروا السياسة. يتذرّعون بالقصور المؤكّد فى المؤسّسات كى يعطّلوا المؤسّسات. يستخدمون النقص الديموقراطيّ فى البرلمانيّين كى يفرضوا العدم الديموقراطيّ.
تجربة طيّب أردوغان، بعد تجارب أخرى كثيرة فى هذه المنطقة، تقوم على افتراض الحلّ الواحد والحاسم والناجز لمشكلات معقّدة يشهد حلّها بالضرورة تقدّمًا وتراجعًا وانتكاسات وتسويات. «حكمة» الحلّ الواحد الحاسم والصائب الذى يرقى رفضه إلى خيانة، هى أمّ الاستبداد وأبوه. الزعيم التركيّ يعيد إلى تلك «الحكمة» رونقها الذى بدا فى وقت سابق أنّها فقدته. تركيّا نفسها وأردوغان نفسه كانا قد وجّها طعنات نجلاء لحكم العسكر. لكنْ يبدو اليوم أنّ مقوّمات الاستبداد والحكم القويّ لا تزال قويّة وقادرة. ما كان ينقص هو أن تتعزّز الشعبويّة فى العالم حتّى يتغلّب الطبع الأردوغانيّ على التطبّع، فيحصل فى تركيّا ما حصل فى الدول المجاورة لها. النهاية التى انتهت إليها الثورات العربيّة جاءت عنصر تعزيز آخر للوجهة هذه.
أن يصير أردوغان سلطانًا أو وليًّا فقيهًا أو قائدًا ملهمًا أو أبًا للشعب لا يزال فى حاجة إلى جهود قد لا تحتملها تركيّا، جهودٍ يقاومها اليوم مناضلون ونشطاء مدنيّون عافوا الآباء والأولياء والملهمين. والفارق كبير، بطبيعة الحال، بين الـ ٩٩ فى المئة الشهيرة للقادة الذين هم مثالات أردوغان، والـ ٥١ فى المئة التى نالها هو. لكنّ برنامج الرئيس التركيّ، على ما يبدو، هو هذا بالضبط: أن يصير الشعب ماشية، وأن يصير الحاكم نصف إله. أن تسير تركيّا بالتدريج نحوالـ ٩٩ فى المئة أو ما يقاربها. وعلى الطريق إلى الهدف ستُكتشف «مؤامرات» كثيرة يقف وراءها شياطين وأوروبيّون وصليبيّون ونازيّون وأكراد وإرهابيّون من كلّ نوع. طريق الكذب هو الذى ستسلكه تركيّا أردوغان وصولًا إلى حتفها، أو إلى حتفه هو.
نقلا عن الحياة اللندنية