يقولون إننى أكتب عن أشياء ليس لها وجود! إن المعنى الثمين الذى أفتش عنه خاسر مفقود! إن نجم الحب الذى يسكننى غائب مسلوب! فأصررت، يقولون إن صمت القبور مصير المتكبر المغرور! إن الزمن هو عمر الجسد، وعمر الجسد مغلول مرهون! فتحررت، يقولون إننى لا أعلم شيئًا عن الكنز المخبوء والسر المكتوب! فنقبت، يقولون إن نسمات الحياة راحلة، ورياح الموت قادمة! فتأملت الحكمة، وفكرت.
يقولون إن الرجل عادةً لا يُقدر، لا يُحس، لا يَعشق سوى الجسد! المرأة التى لا تمتلك سوى جمال الجسد، والروح تذوب كالسكر المعقود أو اللبن المسكوب فى وعاء الجسد! فقلت: صغير هو، ما زال يغويه سحر «اللعبة»، أما أنا ففهمت «اللعبة»!
يقولون إن ظل «رجل» متنقل أسعد من ظل «حائط» متعطل! فضحكت على النكتة الماكرة! وتساءلت متهكِّمة: هل غُمِرْنا فى قاع الانحطاط إلى هذا الدرَك؟! هل نَشْكو من ضآلة التقزم إلى هذا الأمَد؟! هل يخفى عن لغة القلوب عبث تلك المفارقة؟! هل يُحلِّق فى أفق العقول وجه للمقارنة؟! هل وصلت رفعة المنزلة فى عصر المعجزات والتجليات المبهرة إلى فخر التباهى بأن احتلال «الحائط» هو قمة تفوقها ومجدها وانتصاراتها المذهلة؟!
يقولون إن طبيعة الرجل أزليَّة مبهجة متمكنة، وطبيعة المرأة متهورة نكدية متحكمة! فرددت: هل من المنطق أن يغيب عن فكر خالق هذا الكون تسوية رموز طرفى المعادلة المتنافرة؟! هل يعجز عن فض كوارث؛ تلك المتقابلات المتصارعة، الاشتباكات المتعرقلة؟! أليس الله متعاليا، متكاملا، عبقريته متجلية! إلا أن جوهر الصعوبة المُفسِدة يكمن فينا؛ شقاء الأمراض المزمنة، عفن المستنقعات الراكدة، بشاعة الأشلاء المتناثرة!
يقولون إننى لم أدرك بعد عُمْق القضية، أبعاد المسألة، آفاق النظرية! فرددت: تعبت جدًا، استنفدت، استهلكت! وأين المفر من رغبات القدر المتجبرة؟! هل يحق مخاصمة طرق الحياة المتعقدة؟! هل يليق مغادرة أنفاق المعرفة الشائكة؟! هل يمكن قراءة صفحاتى المُهلِكة؟! هل أملك غير الخشوع أمام آخر حرف ونقطة ودمعة فى الروح متَحجِّرة؟!
يقولون إننى محاربة عنيدة، ترتدى قميص الأميرة النبيلة، لا تهيب شراسة المبارزة، لا ترتعب نيران المعركة! قلت: أليس هذا هو الطبيعى والمفترض فى سبيل المقدس والمعتقد؟! فهل فى رحيقى ما يزيد على خالص كل الكائنات والبشر؟!
يقولون إن «الأسود» فقط يليق بى! رددت: أبدًا كل الألوان خاصة «الأبيض» تليق بى! يقولون تهزمنى «العنوسة» مثل «بيت الوَقْف» المُتعلِّق المكتوف! لا هو يباع، ولا يشتريه أحد حتى لو مرغم موثوق! فقلت خَجِلة: رغم إفلاس المطابقة، وفحش المغالطة، عزيزة المكانة أنا، لا أباع ولا أشترى! وتساءلت هازئة: أليس علو مقام الشامخ المتمرد أشرف من وضاعة أنف المُنحَنى المُتذلِّل؟!
يتعاطون نفس العلل المعتمة عبر عصور الإنسانية الماضية؛ إن المرأة يهزمها الأيام الخالية، التَّرمُّل، الثُّكْل، المرأة الأجمل منها، الفاتنة، أو الغيرة الأكبر منها، القاتلة، وليس ذلك فحسب، بل تهزمها أشياء أخرى موجعة وقاسية؛ شموع الليل المحترقة، زهور الفجر المنتحرة، أحضان الموج المشتعلة، حروف الحب المنتحبة، بقايا المعنى المهترئة، هروب الزمن، قطرات المطر، بكاء الطفل البرىء، الذى تسمعه من بعيد، لكنه لم يخرج من رحمها، خرس السكوت المميت حولها، و شىء حى جميل جدًا، ينبض بالداخل عندها، لا يرويه إلا شىء حى جميل جدًا، ينبض بالخارج، ليس عندها!
فى النهاية عرفت الإجابة الفاصلة على كل الأسئلة القديمة الخاسرة! لماذا أجد أشباح أموات وليس قناديل أحياء تمشى على الأرض؟! لماذا أرى سحابات حزن وشقاء وبؤس تفترش الشارع والطريق والأسفلت؟! لماذا لا ألمح شموس الدفء والفرح والسلام ساطعة حولى؟! لماذا لم تشهد رفرفة رايات العزة والكرامة والفوز عينى؟! لماذا لا يزين ضوءُها المتلألئ الهامات والسماوات أمامى وفوقى؟! لماذا يشتد دومًا بالغ حسرتى وأسفى وألمى؟! فاسترحت!