بقلم – رفعت السعيد
عندما عاد سلامة موسى إلى مصر من رحلته الأولى للخارج فى عام ١٩١٣ والتحق بتلك الكوكبة المحدودة العدد العميقة التأثير ومنهم أحمد لطفى السيد، طه حسين، أحمد أمين، محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، كان يتخيل أنه سيجد لديهم إجابات لتساؤلات تقلقه لكنه وجد لديهم مزيدا من الأسئلة.. وتبدت حيرته الأبدية عندما صاح «ماذا أنا عامل فى هذه الدنيا؟ من هم خصومى الذين يجب أن أكافحهم، ومن هم أصدقائى الذين يجب أن أؤيدهم؟ وجدتنى أفكر وأجيب، وأحيانا يحتد تفكيرى فأسمعه كلاما أنطق به، أجل ليس لى مأرب فى هذه الدنيا، فلست أبالى أن أكون ثريا، أن تكون لى زوجة وأطفال، وإنما قصدى أن أفهم، وأن أعرف كل شيء، وآكل المعرفة أكلا، ثم عدت وقلت لنفسي، ولكن لماذا؟ وأجيب: لأكافح، أكافح الإنجليز حتى يجلوا عن وطننا، وأيضا أكافح تاريخنا، أكافح هذا الشرق المتعفن الذى تنخر فيه ديدان التقاليد، وأكافح هذا الهوان الذى يعيش فيه أبناء وطني، إنه الجهل، إنه الفقر. أجل إنى عدو الإنجليز.
وعدو لآلاف من أبناء وطني، هؤلاء الرجعيون الذين يعارضون العقل، والحضارة المصرية، وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات، وصارت هذه الأفكار هما يؤرقني» (مجدى عبدالحافظ – سلامة موسى بين النهضة والتطور – ص٢٠).. وعندما ترد كلمة نهضة على سن القلم يتوقف ليسأل نفسه ما هى النهضة؟ ويجيب «النهضة ثراء وقوة وصحة وشباب.
ولكن قد يكون الثراء مؤلفا من نقود زائفة، كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعا وليس حقيقة.. ما هى النهضة إذن؟ والإجابة أن نهدم القديم المعيق للتقدم لنتمكن من بناء مبنى جديد شاهق محل القديم المتخاذل والمتهدم»، لكنه يعود ليحذرنا «أن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين، ونطردهم وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم ثم نعجز عن أن نهزم فكر القرون الوسطى فى حياتنا» «سلامة موسي – ما هى النهضة؟ – ص٨»، والحقيقة أن سلامة موسى قد قام بتجربة مثيرة للدهشة، فقام فى الأربعينيات بمراجعة كتاباته بحثا عن أكثر الكلمات تكرارا فيها فوجدها «التطور، العالمية، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، والمستقبل» وعلق قائلا «وكلها كلمات تدعونا إلى التغيير» (تربية سلامة موسي- ص ١٧٧) ثم بدأ يرسم ملامح مشروع يلتزم به.. عبر المحاور التالية:
١ – التفكير العلمى كوسيلة للتقدم.
٢ – حرية الفكر والديمقراطية.
٣ – التطور سنة الحياة.
٤ – الصناعة والاشتراكية هما الهدف.
٥ – حتى لا نضحك على أنفسنا فلنحدد ما معنى النهضة.
٦ – الدين.. والدين السلفى.
٧- المرأة وكيف نواجه الحصار المفروض عليها؟
٨ – اللغة.
٩ – الأدب للشعب وليس للخاصة.
١٠- التعليم.
هذه المحاور ظلت تهيمن على سلامة موسى فى كل ما يكتب وعبر عشرات السنين وخمسين كتابا وأكثر من ألف مقال.. صرخ بهذه المحاور محاولا أن يسترضى ضميره ويطمئن عقله.
ولكنه يعود ليقول «فلما عدت إلى مصر سنة ١٩١٣ وجدت أن الوعى الدينى أكبر وأعمق من الوعى القومى أو الوطنى سواء بين المسلمين أو بين الأقباط، فأحسست عندئذ هدفا آخر هو ضرورة مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور لداروين، عندئذ يجد الشباب وعيا جديدا هو الوعى بالعلوم المادية الذى يساوى بين أبناء البشر ويدعو إلى الوفاق بدلا من الشقاق»..واندفع سلامة موسى فى حالات من المغالاة داعيا مرة إلى الفرعونية وثانية إلى الكتابة بالحروف اللاتينية وثالثة لإلغاء قواعد الإعراب فى اللغة لكنها كانت فورات يندفع فيها وبها ثم يتراجع ولم تكن انعكاسا لقلق مثقف ينتمى إلى أقلية دينية مقهورة مندمجة فى شعب كله يعانى من القهر، لكن سلامة موسى يعود ليحيرنا إذ يؤكد أن أهم ما علق فى عقله وتعلق به هو الديمقراطية، ويقول إن أهم مبادئ الديمقراطية الأمريكية أنه لا يجوز للكونجرس أن يسن قانونا لاحتضان دين معين أو لمنع الممارسة الحرة لأى دين آخر، ويمضى بنا البحث لنقرأ «لم يهتم أغلب المشرعين فى الدستور المصرى الذى صدر عام ١٩٢٣ بالبند الذى ينص أن دين الدولة هو الإسلام واعتبروا أن ذلك إقرار بالأمر الواقع.. وهو لزم الحكومة بذلك.. لكن هو يلزمنا بالإسلام السنى أم الإسلام الشيعى.. وما هو الموقف من الأقليات الدينية.. وقد تداركت الدول الديمقراطية ذلك بأن أبعدت الحكومة عن شئون الدين وتركت ذلك للأفراد، ولعل مواقف كهذه وأسئلة أخرى مثلها قد عرضت سلامة موسى للاتهام بأنه مجرد مسيحي، وتعاملوا معه كذلك وربما أقصوه من عقولهم لذلك، ولعل هذا بالتحديد هو ما دفع المفكر الرائع حسين فوزى إلى أن يقول «عندما يتبوأ سلامة موسى مكانه الحقيقى فى تاريخ هذه البلاد، وعندما يحس المصريون أن جيلا من أجيالهم قد قاوم سلامة موسى وأقصاه من المجامع، ولم يعترف له بحق فى ما تقدمه الدولة لأبنائها الممتازين من جوائز، أقول عندما يحس المصريون إحساسا عميقا بما أصاب سلامة موسى على أيدى أبناء جيله، فإننى سأعلم حينئذ أن بلدى قد عرفت للفكر الحر مكانته وللشجاعة الأدبية معناها، وللعلم مقامه» (فكرى أندراوس – سلامة موسى.. الحالم فى عصر القلق ١٨٨٦- ١٩٥٨- ظهر غلاف الكتاب) ولست أنا الذى لم أحتك بشكل مباشر بسلامة موسى أدرك هل كان سلامة موسى يهتم بذلك أم كان يترفع عليه شأن بعض تلاميذه من المسيحيين الذين تعاملت معهم؟ لكننى أكاد أسمعه وهو يقول فى أكثر من موضع «الديمقراطية هى المذهب الذى يجب أن نتمسك به. الديمقراطية قبل كل شيء».
وبعد هذه المقدمة نعود إلى بداية الكتابة عن سلامة موسى