مضى أكثر من نصف الشهر الكريم، والذي يجتهد فيه كل من يدرك قيمته كى ينهل من فضل الله ويغسل ذنوب العام، ويطلب الرحمة والعطايا الربانية.. ورغم أن رمضان من المفترض أن يكون شهر عبادة إلا أننا حولناه إلى مهرجان تليفزيونى وفنى.. إلى جانب الشكل الاحتفالي من خلال السهرات الغنائية والاستعراضية فى الخيم الرمضانية، والتى فى الغالب لا تتناسب مع هذا الشهر!!.. وفى ظل هذا الزخم أصبح رمضان ليس موسما للأعمال الدرامية فقط، بل أصبح أهم مواسم الحملات الإعلانية، والتى أصبحت هى البطل الأهم على القنوات لتطغى على الدراما وتتخللها، وتصبح مدة الإعلانات المعروضة أثناء عرض العمل الدرامي أكبر من مدة العمل نفسه.. حتى إن بعض القنوات أفقدت الأعمال الفنية أحد أهم مقوماتها، وهى موسيقى المقدمة والنهاية، والتى تعتبر أحد أعمدة العمل الفنى، والتى تمهد روح المتلقى لاستقبال العمل الفنى، وأحيانا تختزل حلقات المسلسل فى كلمات معبرة ترسخ رسالة المسلسل فى ذهن الجمهور..إلا أن بعض القنوات التى لا تعى القيم الفنية والجمالية ألغت موسيقى التيتر لتستبدلها بالإعلانات!!.. لنجد أنفسنا بين إعلانات مسفة تحمل قيما سلبية بين السطور (وأغلبها للملابس داخلية) أو إعلانات تثير الكآبة والحزن من قسوة ما تقدمه من مشاهد لمرضى أو بائسين أطفال وكبار!!.. أما المشكلة الأكبر فهى عدم وجود رقابة حقيقية على المبالغ التى يتم التبرع بها إلى المستشفيات والجمعيات الخيرية، وهل جميعها تذهب إلى الأوجه التى يقصدها المتبرع أم لا؟ لذلك طالبت من قبل بأن تكون هناك جهة واحدة للتبرع تابعة للدولة.. ولكن بين موجات الإعلانات السلبية أو المثيرة للكآبة والمشاعر المحبطة، ظهرت حملات إعلانية وإعلامية إيجابية وناجحة وتستحق الإشادة، الحملة الأولى أطلقتها هيئة الرقابة الإدارية لمواجهة الفساد وشعارها: «لو بصينا فى المرايه.. هى دى البداية».. والتى جاءت بصوت صاحبة السعادة الفنانة المثقفة إسعاد يونس، لتوقظ الضمائر وتنكأ الجروح، وتظهر بعض النماذج الفاسدة فى مهن مختلفة، لتذكرنا أن الفساد داخلنا، وعلى كل منا أن يبدأ بنفسه.. أما الحملة الثانية فهى بعنوان: «حق المواطن فى المعرفة» والتى بدأت بالرسالة الإعلامية الأولى التى ظهرت فيها المبدعة إسعاد يونس لتعبر عما يجيش فى صدورنا، والصراع داخلنا بين شعورنا بأننا نمشى فى الاتجاه الصحيح، والشعور الآخر الذى ينازعه بالخوف على البلد، والقلق على المصير، وعدم الثقة فى الطرق التى نسلكها، ثم توضيح سبب تلك البلبلة المتمثل فى نقص المعلومات.. لذلك جاء شعار الحملة «من غير ما تعرف مش هتشوف الصورة كاملة» مستهدفة أن يعرف المواطن ماذا يحدث.. وهى حملة مهمة تؤكد على أحد أهم حقوق الإنسان، وهو حقه فى المعرفة وأهميتها فى خلق الوعى لتحقيق الاستقرار.. كذلك ظهرت موجة جديدة من الإعلانات التى تدعو للتبرع أيضا، ولكنها فى نفس الوقت تزرع التفاؤل فى النفوس من خلال الكلام الإيجابى والألحان المبهجة، والإخراج الأكثر من رائع، والذى يدعو للتفاؤل ولا يثير مشاعر الشفقة والحزن.. كان أولهم العام الماضى حملة التبرع لمؤسسة الدكتور مجدى يعقوب لعلاج القلب بالمجان، وظهر فيها الجراح العالمى والعالم النبيل دكتور مجدى يعقوب بنفسه والذى تظهر ملامحه مدى نقاء قلبه، وابتسامته الصافية الكفيلة بنشر التفاؤل والروح الإيجابية والأمل.. ثم ظهر هذا العام فى صخب الحملات الكئيبة حملة مستشفى (٥٠٠ ٥٠٠) وهى مؤسسة المعهد القومى للأورام الجديد، والتى تستحق جائزة أفضل إعلان لحملة دعائية، حيث استخدم فيها المخرج المبدع طارق العريان كل العناصر الفنية ببساطة وإبهار، ووظف المشاركين فى الإعلان سواء الفنانين والمشاهير أو الأطفال المرضى أو الذين تماثلوا للشفاء بطريقة تجبر المتلقى على التفاؤل، وتزيل من نفوس المرضى وذويهم روح اليأس والاستسلام، بالموسيقى الجميلة للملحن الموهوب عمرو مصطفى، والكلمات المعبرة التى غنتها الفنانة أصالة، والتى كانت فى الأصل عبارة عن أغنيتين من ألحان عمرو مصطفى تم دمجهما، الأولى «إفرح» من كلمات الشاعر تامر حسين، والثانية (بكره بشرة أمل) وكانت فكرة لإعلان آخر للشاعر ربيع السيوفى، وخلال تنفيذ أغنية المستشفى، استمع القائمون على العمل للأغنيتين وطلبوا دمجهما لكى تكون أكثر بهجة وسعادة.. وهو ما تحقق بالفعل ليثبتوا أنهم يستطيعون الوصول للرسالة التى يستهدفونها دون إثارة المشاعر السلبية والمتاجرة بآلام الناس وأوجاعها..فنحن نحتاج استعادة القيم الجمالية والأخلاقية فى حياتنا، واستحضار روح التفاؤل والرضا والعمل والبناء، بدلا من القبح واليأس والفقر والمرض، ونحتاج أيضا نشر قيم التكافل ولكن دون ابتذال وابتذاذ لمشاعر الناس.. فكل التحية والتقدير لمن يزرعون قيم الجمال والأمل وينشرون السعادة وقت الألم.