بقلم – رشا يحيى
منذ أعوام عدة ذهبت لأول مرة إلى مدينة بلبيس التى تقع فى محافظة الشرقية، وكان السبب الذى قد يبدو غريبا هو إقامة حفل أوركسترالى للموسيقى الكلاسيكية، برعاية عميد الكونسرفتوار آنذاك الأستاذ الدكتور فوزى الشامى!! وبلبيس تشبه الكثير من قرى مصر فى الطبيعة الريفية، ووجوه فلاحيها بملامحهم الطيبة التى تظهر الأصالة، ويرتسم فيها الكفاح والصبر، وسمرة الشمس الحارقة، والتى تترك معالمها على بشرتهم التى تبدو كطين الأرض الطيبة.. تعجبت بعد وصولنا إلى بلبيس وأنا لا أرى سوى هؤلاء الفلاحين على جانبى الطريق، فشعرت أنه من الصعب أن يتذوق الجمهور فى هذا المكان ما نقدمه من موسيقى كلاسيكية يصعب تذوقها للكثير من صفوة المصريين، وكانت المفاجأة التى رأيتها بعد دخولى إلى مكان الحفل؛ حيث وجدت فى قلب بلبيس ما يشبه المدينة الفاضلة.. مدينة صغيرة متكاملة لا ينقصها شىء، مدرسة ومسرح ومستشفى ومصانع ومزارع وأماكن عبادة، وأماكن ترفيهية.. مكان يمتلئ بالفلاحين والمهندسين المصريين، وفى الوقت نفسه الكثير من الألمان والنمساويين من جميع الأعمار، والجميع يعملون ويتعايشون فى المكان نفسه، ويعلمون أبناءهم فى المدرسة نفسها، ويبدون وكأنهم مزيج لا يفرقهم سوى لون البشرة واللغة!!.. أما المبانى فكانت بسيطة ولكنها متقدمة، وتحتوى على كل شىء داخلها.. وكانت السمة الأساسية فى المكان: النظام الصارم، والاهتمام الشديد بالنظافة، والنمط الصحى فى كل شىء (الطعام، ونظم التهوية والإضاءة، وحتى الحوائط المطلية بدهانات لا تحتوى على مواد كيميائية)!!.. كان المكان ممتعا مما أضاع عناء رحلة السفر، وبخاصة بعد أن قدمنا حفلا موسيقيا رائعا حضره الكبار والصغار فى هذا المجتمع الجميل، والجميع خرج من الحفل منتشيا وسعيدا، حتى الفلاحين البسطاء الذين كانوا يستمعون لتلك النوعية من الموسيقى ربما للمرة الأولى!!.. كانت هذه هى أولى زياراتى، ولكنها ليست آخرها لهذا المجتمع الصغير المتكامل الذى أطلق عليه مؤسسه الاسم الفرعونى «سيكم»، أى «الحياة من الشمس» بالهيروغليفية.. والذى اختار أن ينشئه فى عمق الصحراء الشرقية عام ١٩٧٧، فبدأ بمزرعة للإنتاج الحيوى، ثم توسع لتصبح مؤسسة «سيكم» مشرفا على إدارة أكثر من ٨٠٠ مزرعة لإنتاج الزراعات الحيوية التى لا يستخدم فيها الأسمدة الكيماوية أو المبيدات… كذلك أنشأ مصنعا لتحويل القطن إلى ملابس «حيوية».. ورغم هذا النجاح العظيم؛ فإن النجاح الأكبر تمثل فى الاستثمار فى البشر والتنمية الاجتماعية والثقافية التى صنعها مؤسس «سيكم»، والذى لم يكن أحد يتخيل حين يراه أنه مؤسس هذا العالم بما يحتويه من إنجازات ومشروعات اقتصادية وإنسانية رائدة، وذلك لما يتمتع به من شخصية شديدة البساطة والتواضع ووجه بشوش دائما، إلى جانب جسده النحيل الذى كان يمتلئ بالاعتزاز والشموخ، وكان دائما ما ينادى بالقيم الإنسانية النبيلة التى جعلها أساسا لحياته وعمله ومجتمعه الصغير الذى أراده أن يكون المدينة الفاضلة.. إنه العالم المصرى الدكتور»إبراهيم أبو العيش» الذى فارق دنيانا الخميس الماضى، فى تلك الأيام المباركة، والذى كان من أهم العلماء فى الكيمياء التطبيقية؛ حيث هاجر إلى النمسا فى شبابه والتحق بالجامعة لدراسة الكيمياء الصناعية، وأثناء دراسته تعرف على فتاة نمساوية وتزوجها وأنجب منها ابنه حلمى وابنته منى، وقد نال الدكتوراه برسالة علمية عن طريقة جديدة لاستخدام السليلوز فى صناعة الورق، ثم درس الطب وتخصص فى علم الأدوية (فارماكولوجى)، وحصل على الدكتوراه عن بحثه عن الغدة الدرقية، ثم عاد إلى مصر مع أسرته لينشئ مؤسسة «سيكم»، والتى كانت سببا لحصوله على جائزة نوبل البديلة للتنمية المستدامة عام ٢٠٠٣، بالإضافة إلى اختياره ضمن أفضل عشرة رجال فى مجال العمل الاجتماعى على المستوى العالمى، وكان منهجه يقوم على الالتزام بثلاثة عناصر، هى: تطوير الإنسان، وتطوير الأرض، وتطوير المجتمع.. ولهذا كان التعليم والزراعة والصحة عناصر أساسية فى اهتماماته، إلى جانب المبادئ التى وضعها للعمل والتى تتمثل فى: التحدى، والعمل المستمر، والإخلاص فى العمل، والرؤية المستقبلية، والتخطيط العلمى السليم، والمزج بين العلم والفن من أجل صالح المجتمع والإنسانية، والعمل بروح الفريق، واحترام حقوق الإنسان.. وإلى جانب النموذج الفريد الذى أنشأه فى «سيكم»، أنشأ أيضا عام ٢٠١٢ جامعة «هليوبوليس» من أجل الارتقاء بمستوى التعليم فى مصر وتخريج شباب قادر على الابتكار والتطوير.. هذا العالم الجليل قدم لمصر الكثير، من خلال مؤسسته الرائدة التى أنشأها، وكنت أتمنى أن يكرم من الدولة، وأن يستفيد الإعلام من وجوده قبل أن يفارقنا، لنسمع منه تجربته الإنسانية الثرية والملهمة، وحتى يدرك الجميع قيمته العلمية والإنسانية الرفيعة، ولكننا كالعادة لا ندرك قيمة ما نمتلكه حتى نفقده.. رحم الله الدكتور «إبراهيم أبو العيش» أحد رموز مصر فى العلم والعمل.