المهمة الرئيسية لمرحلة «الكى جى» هى إعداد الأطفال للالتحاق بالتعليم الابتدائى، وتحصيل المعلومات والدروس، وفيها يتعلمون القراءة والكتابة باللغتين العربية والإنجليزية، ومبادئ بعض العمليات الحسابية البسيطة.
قبل أربعين عامًا، لم يكن هذا النظام متبعًا، وكنا نتعلم الحروف الأبجدية والأرقام فى الصف الأول الابتدائى.
على أية حال، الأطفال الطبيعيون تعلموا فى ظل كلا النظامين، واجتازوا المراحل المختلفة بمستويات تحصيل وفهم متفاوتة، كلٌّ حسب قدرته على الاستفادة من عملية التراكم المعرفى التى تحدث بشكل مستمر، وحتى أولئك الذين فشلوا دراسيًا، وجدوا طريقهم إلى مجالات أخرى، تفوقوا فيها واحترفوها، لأنهم ركزوا اهتماماتهم فى تجارب معرفية مختلفة، مرتبطة بحرف أو مهن كانت بالنسبة لهم أكثر جاذبية من التعليم.
هكذا هو الإنسان، محصلة لتراكم خبراته المعرفية والعملية، يتطور بحسب حجم تلك الخبرات، وقدرته على استيعابها والوعى بها، وهذا ما يميزه عن غيره من الكائنات الحية، فبينما اختلف نمط حياة وسلوك الإنسان وتنوعت بحسب الزمان والمكان، بقيت الكائنات الحية غير العاقلة محتفظة بسلوكها ونمط حياتها مذ وجدت على وجه الأرض وحتى اليوم، فظل الأسد أسدًا والقط قطًا دون أدنى تغيير.
للأسف، جانب كبير من نخبتنا السياسية والثقافية فشل فى تجاوز مرحلة «الكى جى وان» لتعلم مبادئ السياسة، والعمل العام، ويتجلى هذا الفشل فى خطابها الذى يبدو حبيسًا، لا يبرح أفرادها، ولا يستطيع أن يتجاوز مسامعهم إلى مسامع الجمهور الواسع، بالتأثير عليه والتأثر به.
هذه النخبة فشلت على سبيل المثال فى صناعة حياة سياسية تتسم بالحيوية والحركة والقدرة على التفاعل، ولم تستطع حتى وضع تعريف محدد للكيانات، التى من وظائفها الاشتغال بالسياسة، فراحت تمارسها من خلال أحزاب حجرية البنيان الفكرى، وجمعيات ومؤسسات ترفع لواء العمل الاجتماعى، لكنها كتبت عليه شعارات ملونة بطيفها السياسى، بل وراحت أيضًا تمارسها من خلال النقابات المعنية بتطوير مهارات أبنائها المهنية.
وصارت تدافع عن حقها الأصيل فى ممارسة السياسة من خلال كل تلك المنابر فى نفس الوقت، فاختلط الحابل بالنابل واختفى الخيط المميز بين الناشط السياسى وزميله الحقوقى ورفيقهم النقابى.
ورغم أننا نفترض فى السياسيين الانفتاح على المختلفين معهم وتقبل أفكارهم، فى عملية ديالوج مستمر، هدفها تطوير الخطاب السياسى لكل تيار أو فصيل، باحتكاكه وتفاعله مع الخطابات المناقضة له وسعيًا لإقناع الجمهور الأوسع؛ إلا أن الواقع ينبئنا بأن كل سياسى يحتفظ بخطابه الذى ورثه عن أجداده وأسلافه من المؤسسين الأوائل لتياره أو حزبه، بل يعتقد فى نفسه احتكار الحقيقة المطلقة ومن دونه إما خائن أو عميل أو جاهل.
ومن العجائب أن الاعتقاد باحتكار الحقيقة المطلقة ليس مقصورًا على الإسلاميين فى مجتمعنا، وإنما يمتد إلى معظم أعضاء ونشطاء التيارات السياسية الأخرى، اليسارية على وجه الخصوص، وهذا ما يفسر لجوءها جميعًا إلى أساليب الإرهاب الفكرى، ولو أتيحت لهم الفرصة لانخرطوا فى الإرهاب المسلح، جنبًا إلى جنب مع الإسلاميين الإرهابيين.
جانب آخر من النخبة السياسية يبدو أنه لم يستفد من دروس مرحلة «الكى جى» شيئًا على الإطلاق؛ ذلك أن من أبجديات الاشتغال بالسياسة والعمل العام تقبل النقد، مهما كان لاذعًا أو ساخرًا، والتفاعل معه لتقوية عضلات وجهة النظر التى يمثلها هذا السياسى، أو إجراء بعض الإصلاحات فى خطابه وطريقة أدائه، على نحو يبطل مفعول قذائف النقد.
ومع ذلك نجد سياسيين لا يميزون بين نقد أدائهم، وبين ما قد يرتكب ضدهم من جرائم سبّ وقذف.
سياسيون يرون كل ناقد أو ساخر شتام ولعان؛ فيخرجون عن اللياقة السياسية بردات فعل تبدو بدائية وفطرية، بل قل طفولية.
كل ذلك وكأن مصر لم تعرف الحياة الحزبية بمعناها الحقيقى قبل أكثر من مائة عام، وكأن نخبة هذه الأيام فقدت القدرة على استخدام وتوظيف ما لدينا من تراكم فى الخبرة السياسية، فعادت تتصرف مثل تلك الكائنات التى لا يحمل «مخيخها» مراكز لتخزين المعلومات بما يساعدها على التطور والإبداع.
المشهد السياسى المصرى يشى بأننا ربما نكون بحاجة إلى «حضانة» لتربية النشء من السياسيين والمقبلين على الأدوار والوظائف العامة، وأرجو ألا نخجل، ونتقدّم فورًا بأوراقنا إلى إدارة تلك الحضانة حين يعلن عن إنشائها.