كانوا صائمين فانتصروا، وكانوا مخلصين لوطنهم ففازوا، كانوا منضبطين فهزموا عدوًا شرسًا، كان العلم والتخطيط أسلوب قيادتهم فتحقق الهدف وعبر الجنود القناة، ورفع البواسل العلم على الضفة الشرقية ورددوا هتاف الله أكبر وتحيا مصر.
كانت حرب العاشر من رمضان، الموافق ليوم 6 أكتوبر 1973 نموذجًا جديدًا للمعارك الحربية، وأصبحت درسًا عسكريًا ومنهجًا في كل المعاهد العسكرية في العالم.
تعالوا نستعرض خطوات الخداع الإستراتيجي، ودورها في تحقيق النصر، ويكفي أن تعرف أن خوض الحرب، وقرار عبور قناة السويس، خلال شهر رمضان المبارك، كانت أهم خطوات الخداع، لأن إسرائيل كانت تستبعد عبور المصريين وهم صائمون.
كشفت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، عن مراسلات بين وزير الدفاع الإسرائيلي خلال الحرب «موشيه ديان» ورئيس شعبة الاستخبارات بالجيش الإسرائيلي «ايلي زعيرا» تؤكد أن المخابرات العسكرية فشلت في التنبؤ بالحرب.
«ديان» طلب من «زعيرا» إعطاءه قرارًا.. هل ينوى الجيش المصري شن حرب على إسرائيل أم لا؟ فكان الرد من قبل زعيرا هو «كل المؤشرات تؤكد أن الجيش المصري لا ينوى فعل ذلك».
الخبر يدعوك فورًا لإعادة قراءة تفاصيل خطة الخداع الإستراتيجي التي نفذتها مصر، للتعتيم على موعد الحرب والعبور.. ومن أفضل الحكايات التي يمكن أن تستطيع الحصول عليها سردها الكاتب الشهير في مجال روايات المخابرات والجاسوسية، نبيل فاروق، الذي كشف عن قصة «الخداع الإستراتيجي» وتنفيذها بحرفية ودقة غاية في الروعة.
يقول نبيل فاروق إن فكرة الخداع الإستراتيجي للعدو، بدأت مع قرار الرئيس الراحل أنور السادات والقيادة السياسية، بضرورة خوض الحرب واستعادة أرض سيناء المحتلة، ولكن كانت المشكلة في كيفية التحضير لعملية العبور، من دون أن يدري بها العدو، فقد كان هم إسرائيل الأكبر، هو أن تعلم إذا ما كانت مصر ستحارب أم لا؟ تقرر توظيف جميع أجهزة الدولة في خطة خداع إسرائيل، بالإضافة إلى الصحف ووسائل الإعلام، وكان أهم ما بالخطة هو السرية الكاملة التي أحيطت بها من البداية إلى النهاية، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1- اشترك السادات في خطة الخداع، عبر إعلانه استمرار حالة «اللاحرب واللاسلم» مع العدو، وعدم إعلان وقت معين في خطاباته للشعب المصري للعبور، واسترداد سيناء كل ذلك خلق حالة من عدم المصداقية من الشعب المصري في قرارات وخطب الرئيس، بالإضافة إلى خروج الطلبة في الجامعات في مظاهرات ساخنة محتجين على الرئيس لاعتقادهم ان الجيش المصري لن يحارب أبدا.
2- تم وضع خطة بسيطة، ومعقدة في نفس الوقت، لإدخال الطلمبات التي سيستعملها الجنود المصريون في عمل ثغرات في الساتر الترابي، الذي أقامه العدو لعدم عبور القوات أو الدبابات والمدرعات المصرية، فأعلنت وزارة الزراعة انها ستستورد هذه الطلمبات من الخارج، بحجة استغلالها في نظام الري للأراضي الزراعية.
3- خلال دراسة خطة الخداع، وجد رجال المخابرات المصرية، ان استيراد شحنات ضخمة من القمح، لتكون مخزونا احتياطيا أثناء الحرب مع إسرائيل سيجعل العدو يشك في الأمر، ويستنتج أننا نستعد للقيام بعملية حربية، ووضعت خطة عبقرية، فأعلنت وزارة التموين فساد مخزون القمح الموجود في مخازنها، نتيجة حدوث رطوبة للقمح وسوء التخزين.
وتصدر الخبر عناوين الصحف المصرية، وقامت الدنيا ولم تقعد، وطالب الكتاب والصحافيون بمحاسبة المسئول عن ذلك، واتخاذ التدابير اللازمة لتلافي خطر حدوث أزمة في الرغيف المصري، واتخذ المسئولون المختصون قرارا باستيراد صفقات بديلة من القمح، وبكميات ضخمة من الخارج، لتعويض مخزون القمح الفاسد.
4- كانت عملية توفير أماكن العلاج للمصابين من الجنود، الذين قدر الخبراء أنهم سيبلغون «50 في المئة» في موجة العبور الأولى، تتطلب أن يتم إخلاء عدد من المستشفيات المدنية حتى يمكن استقبال هذا العدد من الجرحى الذين لن تستوعبهم مستشفيات القوات المسلحة وحدها.
ونفذت الخطة بعد «7» ساعات فقط من وضعها، فتم تسريح ضابط طبيب من الخدمة العسكرية، وأعيد إلى الحياة المدنية، وتسلم وظيفته السابقة في وزارة الصحة، وتم تعيينه في مستشفى الدمرداش «بالقرب من وسط العاصمة».
وبعد أسبوع تقدم بمذكرة إلى المدير ذكر فيها أن العنابر ملوثة بميكروب التيتانوس، وتم إجراء فحص شامل على العنابر، وجاءت النتيجة إيجابية، وأن المستشفى ملوث بالرغم من أنه كان خاليا تماما من أي ميكروب.. وتم اخلاء المستشفى من مرضاه لتطهيره من التيتانوس، ولكن كان يجب أن يتم اتباع وسيلة أخرى، عن طريق إثارة الأمر في الصحف، وتهييج الرأي العام، وتم الأمر بواسطة أحد الكتاب -المعروف بمقالاته الملتهبة- فاستنكر ما حدث في مستشفى الدمرداش بسبب الاهمال والاستهتار بأرواح المرضى، ثم تساءل: إذا ما كان الأمر يقتصر على «الدمرداش» أم أن الإهمال طال بقية المستشفيات؟
ومع ردة الفعل الجماهيري الغاضبة، أصدرت وزارة الصحة قرارا بإجراء تفتيش على بقية المستشفيات، وتم اسناد المهمة إلى نفس الطبيب في مستشفى الدمرداش، وأجرى التفتيش على عدد من المستشفيات ومع أول أكتوبر «1973» كانت جميع المستشفيات المطلوبة خالية من المرضى نهائيا.
رحمة الله على شهداء الوطن، أبطال الجيش المصري، الذين فقدوا حياتهم، ومازالوا يقدمون التضحيات من أجل حماية الشعب والأرض والحدود، وتحية إلى الرجال الذين مهدوا الطريق للجنود قبل العبور.
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويترلمتابعة أهم الأخبار المحلية