ربما لأننى أحاول دومًا الاقتراب من مجاهل العوالم الخفية، وغياهب الارتجاجات الكونية، التى لم تدركها بعد عقول البشر النمطية، لم أقف مذهولة، معقودة اللسان، حين انفرطت حبات عِقْدى الأبيض الثمين على الأرض، لأسرع فى التقاطها، وإعادة لضمها مرة أخرى.
شاهدت نفس التفاصيل فى حكاية صديقتى الوحيدة، التى سبق اطلاعها ليلا على خبايا نفس المشهد فى حياة إحدى صديقاتها الأثيرَة، واندهشت حين صادفت فى ذات الليلة الشخص الذى تمنيت دومًا مقابلته فى ذات المكان الذى ألحت والدة صديقتى على مقابلتى فيه دون أدنى سَريرَة. حكت لى أحداث قصة غريبة، حينما اجتازت أعقد امتحان أثناء دراستها الجامعية، بعدما اطلعت ليلا فى منامها على جميع تفاصيل الأسئلة الجهنمية، فذكرتنى بلحظة فارقة فى حياتى، حينما اعتصرت أدلجة قلبى حزنًا وألمًا دون أدنى جُرْح، لأكتشف فيما بعد أن الشخص الذى أحببته جدًا قد واجه فى حينها أزمة كابوسية مريرة.
تأملت إنقاذ العناية الإلهية لى مرتين من موت محقق، وتحريضها لى بقوة على تجاوز عتبة فشل هادر إلى مُروج نجاح باهر، لكن الأعجب حقًا هوذهابى دون خوف، على غير عادتى، فى مساء يوم ممطر رعدى، لرؤية فيلم مرعب دموى، هو«أحلام حقيقية».
البداية أمريكية خالصة؛ أمطار غزيرة، رعد، برق، حمام سباحة، تظهر الزوجة «مريم» وهى تمسك «مسدس»، تجرى نحوها ابنتها الطفلة الصغيرة، ثم تُطْلق رصاصة، فتسقط جثة هامدة فى حمام السباحة، فجأة تستيقظ مفزوعة من نومها، فتهرول خارج غرفة نومها، تاركة زوجها «الطبيب» ساكنًا مدهوشًا لأمرها.
يكشف الفيلم بمهارة عن روعة الإثارة التى تزداد توهجًا فى مزاد نظام الكائنات المفتوح طَوال الوقت، من خلال قصة مخيفة، تدور حول معاناة زوجة وأم ثرية، ترى نفسها فى أحلام مُميتَة، ترتكب جرائم قتل وسرقة مُريبَة، تجدها وقعت بالفعل أثناء نومها، بشكل يجعلها مَحَط اشتباه وريبة. يستمر الغموض طيلة أحداث الفيلم، التى تضم العديد من المشاهد المحيرة والمفزعة، أثناء رحلة البحث عن تفسير منطقى للمشكلة، ويُجهِّز «الضابط» لاتهام «الأم» بارتكاب جرائم القتل المروعة؛ لرغبة عارمة فى الانتقام منها؛ لتخليها عن «قصة الحب» الجميلة، التى كانت تجمعهما معا فى الأيام المشرقة.
تطارد الزوجة مشاعر فشل وخيبة يائسة، تقودها نحونهاية حالكة، وهى حتمية انتحارها، فتودع زوجها وابنتها الصغيرة، وتملأ «البانيو» عن آخره، ثم تترك نفسها تغرق رويدًا رويدًا، وفى اللحظة الفارقة يتدخل «اللاوعى»، ليكشف لها أن صديقتها الحميمة هى التى ارتكبت كل هذه الجرائم الغامضة، فى ذات الوقت يذهب «الضابط» أو«حبيبها السابق» إلى مستشفى «حلوان» النفسى، ليجد أن صديقتها هى حالة طبية قديمة بائسة.
فى المشهد الرئيسى يتجمع كل الأبطال حول حمام السباحة بمنزل «الصديقة»، حينها تنادى الأم على ابنتها، فتمنعها «الصديقة»، ويتدخل «الضابط» محاولا إنقاذهما، ثم يطلق الرصاص، فيصيب «الصديقة».
يكشف الفيلم سر المعادلة السحرية، التى يحاول بها الخروج من شرنقة الإطار التقليدى للسينما المصرية إلى عالم الفانتازيا الأسطورى المدهش، الذى يمزج بين الواقع والخيال، ورغم اعتماده فى تقنيات الرعب على «أيقونات» معروفة فى السينما الأمريكية؛ المطر، البرق، الرعد، الشعور بالبرد، تحرك الخيال على الحائط والمدخنة، الدُّخان المتصاعد من أماكن مجهولة، كلب الحراسة، تنويعات الأبيض والأسود فى الصورة، إلا أنها وظفت بشكل جيد.
كتب الفيلم «محمد دياب» ليقدم نوعا جديدا من الدراما المُشوِّقة، التى تميزت بتكنيك السرد الجذاب، وأخرجه «محمد جمعة» فى أول تجربة خاصة بالأفلام الروائية الطويلة، وقد امتلك كل أدواته بحرفية وإبداعية عالية، جعلته قادرًا على تنفيذ عمل متقن الصنع، ذات صورة ممتازة، وبرع مدير التصوير «نزار شاكر» فى حركة الكاميرا الواعية، غير المألوفة، كما أطفت بلاغة موسيقى «تامر كروان» على الأحداث إحساسًا راقيًا.
ديكورات «حمدى عبدالرحمن» الفائقة الجمال والأناقة، والإكسسورات الباهظة التكاليف، ومبنى العمل، وصالة عرض الأزياء، والشوارع، وڤيلا الدكتورة، ومستشفى الأمراض العقلية، جاءت منفصلة تمامًا عن واقع المجتمع المصرى، إلا أنها نجحت فى خلق «حلم سينمائى» مختلف ومبهر.
اتسم أداء «حنان ترك» و«داليا البحيرى» و«فتحى عبدالوهاب» والراحل «خالد صالح» بالتفرد، والتنوع، والحضور الطاغى، والنضج، والحيوية، والفهم الكامل لمقتضيات كل شخصية درامية.
من أجمل مشاهد الفيلم العاصفة، نظرة القسوة والتحدى فى عيون «ضابط الشرطة» للزوجة أو الحبيبة القديمة، التى تبدَّلت فورًا إلى نظرة حب وغرام جارفة، حين لمح يدها تحاول إخفاء «القِلادَة» التى أهداها لها فى الماضى.
هذا ما جعلنى لا أصدق «الكاتب» مطلقًا حينما أظهر الزوجة فى بداية الفيلم تعيش حياة باردة وغير مستقرة مع زوجها، ثم جعلها فى مشهد النهاية تلقى بقلادة حبيبها على الأرض خلفها، وهى التى لازمتها طوال الأحداث، لتواصل حياتها من جديد مع زوجها، لمجرد اقتناعها بجدارته فى حق الاستحواذ على مشاعرها، نظير اهتمامه وعنايته المفرطة لها أثناء أزمتها الساحقة والمهلكة.
هذه بلا شك أضحوكة كاذبة، ربما قد تحدث فى واقعنا المقهور، لكن لا يجب أبدًا أن تحدث على شاشة السينما، التى نستمد منها القوة الخارقة فى مواجهة انكساراتنا اليومية التى تحمل لنا عادة مشاعر الانكفاء على الذات والتعاسة والرغبة فى الفرار؛ لأنها الوحيدة القادرة على منحنا الحقيقة الأجمل والأروع، التى تجسد أعظم ما فى تجربة «الحب الحقيقى»، وهو أنه حالة محددة، واضحة المعالم، غير مبررة، غير مشروطة، غير خاضعة لقوانين العقل، وحسابات المنطق، وتقاليد المجتمع الصارمة.